الاقتصاد العربي
أخر الأخبار

تمويل إعمار غزة بين الوعود السياسية والحسابات المعقدة.. رهان إدارة ترامب على العواصم الخليجية يصطدم بالاقتصاد

الاقتصاد العربي | بقش

عاد ملف إعادة إعمار غزة إلى صدارة المشهد السياسي الدولي مع إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خطته للسلام، التي افترضت ضمناً أن التمويل سيكون متاحاً من الدول العربية والإسلامية، وعلى رأسها دول الخليج. هذا الافتراض، الذي قُدِّم بوصفه مسلّمة سياسية، تجاهل تعقيدات مالية وأمنية عميقة تحيط بالقطاع المدمر.

تقدّر الأمم المتحدة كلفة إعادة الإعمار بنحو 70 مليار دولار وفق متابعات “بقش”، وهو رقم يعكس حجم الدمار الذي خلّفته حرب امتدت لعامين وأدت إلى انهيار شبه كامل للبنية التحتية والخدمات الأساسية. غير أن تأمين هذا التمويل لا يرتبط فقط بتوافر السيولة، بل بمدى قابلية البيئة السياسية والأمنية لتحمّل استثمار بهذا الحجم.

في الواقع، لم تُبدِ أي من الدول الخليجية الرئيسية التزاماً مالياً مباشراً أو غير مشروط، رغم دعمها المبدئي لخطة ترامب. ويعود ذلك إلى إدراك متزايد بأن تجارب الإعمار السابقة في غزة انتهت دون استقرار، ما جعل ضخ الأموال يبدو أقرب إلى مخاطرة سياسية منه إلى مشروع تنموي.

وعليه، يتشكل مشهد ما بعد الحرب في غزة على إيقاع مفارقة واضحة: إجماع دولي على ضرورة الإعمار، مقابل غياب توافق فعلي حول من يدفع، وكيف، وتحت أي شروط.

من الخطاب إلى الواقع: فجوة التمويل

الخطاب السياسي الذي رافق إعلان خطة ترامب أعطى انطباعاً بأن التمويل مسألة محسومة، إلا أن الواقع المالي يُظهر العكس. فالدول الخليجية، رغم امتلاكها القدرات المالية، باتت أكثر تحفظاً في تحويل التعهدات إلى التزامات قابلة للتنفيذ.

مصادر مطلعة على النقاشات الإقليمية تشير إلى أن العواصم الخليجية تنظر إلى إعمار غزة كملف مشروط بالكامل بمآلات الوضع الأمني والسياسي، لا كمشروع إنساني منفصل. فغياب ضمانات الاستقرار يثير مخاوف حقيقية من تكرار سيناريوهات الدمار وإعادة الإعمار دون نهاية.

هذا الحذر يتغذى أيضاً من غياب تصور واضح لطبيعة الإعمار نفسه. فلا توجد حتى الآن إجابة حاسمة حول ما إذا كان المشروع سيقتصر على إعادة بناء ما تهدّم، أم سيمتد إلى إعادة هيكلة شاملة لاقتصاد غزة وبنيتها التحتية.

في ظل هذا الغموض، تبدو التعهدات العامة أقرب إلى مواقف سياسية رمزية، فيما يبقى القرار المالي الفعلي مؤجلاً إلى حين اتضاح الصورة بالكامل.

السعودية: قدرة أقل ورغبة أكثر انتقائية

السعودية، التي تُعد تقليدياً أحد أبرز الممولين في الملفات الإقليمية الكبرى، تواجه اليوم معادلة مختلفة. فتراجع أسعار النفط بأكثر من 10% خلال العام فرض ضغوطاً على الميزانية وفق اطلاع بقش، ودفع الرياض إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاقتصادية.

هذا التراجع انعكس على برامج الإنفاق الكبرى، بما في ذلك بعض مشاريع التحول الاقتصادي، ما قلّص هامش المناورة المالية في الملفات الخارجية. وبالتوازي، تغيّر النهج السعودي تجاه المساعدات، مع تراجع نموذج المنح المفتوحة لصالح مقاربات أكثر تشدداً وربطاً بالنتائج.

الرياض باتت تنظر إلى التمويل الخارجي من زاوية العائد السياسي والاستراتيجي، لا كأداة نفوذ تقليدية فقط. وهو ما يفسر ترددها في الالتزام بمبالغ ضخمة لإعمار غزة دون آلية رقابة واضحة وضمانات تحول دون سوء الاستخدام.

في هذا السياق، تبرز مقاربة توزيع العبء المالي على أكثر من دولة خليجية، بما يقلل من المخاطر الفردية ويحول التمويل إلى جهد جماعي مشروط.

الإمارات وقطر: اختلاف المقاربة وتداخل النفوذ

الإمارات تتعامل مع ملف غزة من منظور سياسي وأمني صارم. فقبل أي حديث عن التمويل، تشدد أبوظبي على ضرورة وضوح مستقبل الحكم في القطاع، وتغيير السلطة الفلسطينية، وضمان عدم عودة فصائل المقاومة إلى السيطرة.

هذا الموقف يعكس تجربة إماراتية سابقة في التعامل مع مناطق الحرب، حيث يُنظر إلى الإعمار كجزء من تسوية شاملة تضمن لها نفوذاً شبه دائم ولا يمكن فصله عن مسألة السلاح والحوكمة.

في المقابل، تتحرك قطر ضمن هامش مختلف، مستندة إلى دورها كوسيط إقليمي وفاعل مباشر في ملف غزة. الدوحة لا ترفض مبدأ التمويل، لكنها تربطه بتنفيذ بعض التعهدات، وبضمانات تمنع إفشال أي اتفاق لاحق.

غير أن هذا الدور القطري، رغم أهميته، يثير تحفظات لدى أطراف إقليمية ودولية، خاصة في ظل الخلاف حول مستقبل “حماس” وموقعها في أي ترتيبات سياسية قادمة.

مصر: مركز التنفيذ بلا تمويل مضمون

تسعى مصر إلى تثبيت موقعها كمنصة تنفيذ رئيسية لإعمار غزة، مستندة إلى قربها الجغرافي وثقلها السياسي وخبرة شركاتها في مشاريع البنية التحتية الكبرى. واستضافة مؤتمر دولي للإعمار تعكس هذا الطموح بوضوح.

القاهرة ترى في الإعمار فرصة اقتصادية إلى جانب كونه ملفاً أمنياً وسياسياً، خاصة في قطاعات الطاقة والغاز والبناء. غير أن هذه الرؤية تصطدم بحقيقة أن التنفيذ يظل مرهوناً بتوافر التمويل.

فمن دون التزامات مالية واضحة من الخليج أو المجتمع الدولي، ستبقى قدرة مصر على تحويل الخطط إلى مشاريع محدودة. وهو ما يجعل المؤتمر المرتقب خطوة سياسية مهمة، لكنها غير كافية بذاتها لإطلاق عملية إعمار فعلية.

وبذلك، تقف مصر في موقع الوسيط التنفيذي الذي ينتظر توافق الممولين قبل أن يبدأ العمل على الأرض.

وحسب قراءة بقش، يُظهر ملف إعمار غزة أن الرهان الأمريكي على التمويل الخليجي يتجاهل تحولات عميقة في سلوك هذه الدول تجاه النزاعات الإقليمية. فالدعم لم يعد يُمنح بوصفه التزاماً تلقائياً، بل كأداة مشروطة بحسابات دقيقة.

الدول الخليجية باتت تنظر إلى غزة من زاوية الاستدامة السياسية والأمنية، لا من منطلق الاستجابة العاجلة فقط. وهي تدرك أن ضخ الأموال دون ضمانات قد يعني تمويل دورة صراع جديدة لا أكثر.

في المحصلة، يبدو أن إعمار غزة لن يكون مسألة سرعة في جمع الأموال، بل اختباراً لقدرة الأطراف كافة على إنتاج تسوية تسبق الإعمار، لا تلحق به. وإذا لم تُحسم هذه المعادلة، سيظل التمويل وعداً مؤجلاً، مهما ارتفعت كلفة الدمار.

زر الذهاب إلى الأعلى