
الاقتصاد العالمي | بقش
في خضم التنافس المتصاعد بين الولايات المتحدة والصين، يكشف تحليل اطلع عليه “بقش” لـ”بلومبيرغ” عن عمق “الخطأ الأمريكي” في فهم “المشروع الصيني” طويل الأمد، ويقدّم رؤية جديدة لما ينبغي على واشنطن فعله لتجنب الانحدار الاستراتيجي.
ولم يعد النقاش في واشنطن يقتصر على خطأ الرهان على تحويل الصين إلى ديمقراطية ليبرالية عبر التجارة الحرة، بل أصبح يركز على كيفية التكيف مع نموذج القوة الصينية الذي أثبت نجاحه على مدى أربعة عقود.
استراتيجية صينية واضحة واستغراب أميركي
وفق بلومبيرغ، لم يُخف الحزب الشيوعي الصيني استراتيجيته منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، فبعد قمع احتجاجات ساحة تيانانمن عام 1989، حذّر دنغ شياو بينغ من أن التخلي عن حكم الحزب الواحد سيحوّل الصين إلى تابع للغرب، وحدّد مهمة الصين الإستراتيجية طويلة الأجل بمواجهة الهيمنة الأمريكية والعمل على إقامة نظام سياسي واقتصادي دولي جديد.
وهذه التصريحات، رغم وضوحها، قوبلت في واشنطن بالاستخفاف، إذ اعتقد صناع القرار أن دمج الصين في النظام الليبرالي العالمي سيشكل رهانا منخفض المخاطر، خاصة مع الفجوة الاقتصادية الكبيرة بين البلدين آنذاك.
وأشار التحليل إلى أن انشغال الولايات المتحدة بالحروب الخارجية، خصوصاً في العراق وأفغانستان، كلفها نحو 3 تريليونات دولار واستنزف طاقتها السياسية والعسكرية، بينما استغلت الصين هذه الفرصة لتسريع نموها الاقتصادي.
بحلول نهاية ولاية جورج بوش الثانية، بلغ الناتج المحلي الصيني نحو 32% من الناتج الأمريكي، ليس نتيجة اندماجها في النظام الليبرالي، بل نتيجة استراتيجية صبر طويل وانشغال الولايات المتحدة بشؤونها الداخلية والخارجية.
محاولة المواجهة الأمريكية وخطأ جديد
محاولة إدارة دونالد ترامب الأولى مواجهة الصين في كل الاتجاهات جاءت كرد فعل على سنوات من الرهان الأمريكي المخطئ، لكنها لم تكن حلاً ناجعاً.
سياسة المواجهة المباشرة لا تعالج نقاط الضعف الداخلية الأمريكية، بل ترفع مخاطر صدام كارثي وفق قراءة بقش. وتقترح بلومبيرغ بدلاً من ذلك استلهام “البصيرة المركزية” لدنغ شياو بينغ: التركيز على الاستقرار الداخلي كشرط للتحديث الاقتصادي، وإنهاء الفوضى الداخلية، وإعادة ترتيب البيت الأمريكي عبر إعادة بناء القاعدة الصناعية، وتعزيز الاستثمار في العلوم والتكنولوجيا، وإصلاح التعليم، وتقليص العجز المالي غير المستدام، واعتماد صفقات ظرفية مرنة بدلاً من أوهام السيطرة الكاملة.
وتُقر بلومبيرغ بأن الصفقات المؤقتة، مثل الهدنة التجارية بين ترامب وشي جين بينغ في أكتوبر 2025، لا يمكن تسويقها كـ”انتصارات حاسمة”، لكنها تسهم في الحفاظ على توازن هش، وتجنّب خسائر جسيمة قد تنتج عن تعطيل التجارة أو حظر المعادن النادرة.
السباق التكنولوجي
التحليل يحذر من تقلص الفجوة التكنولوجية بين الصين وأمريكا بوتيرة سريعة، مع انخفاض حصة الحكومة الفيدرالية الأمريكية في تمويل البحث والتطوير من 28% إلى 18% بين 2012 و2022، مقابل إنفاق الصين أقل من الولايات المتحدة بـ40 مليار دولار فقط، ما يهدد الريادة التكنولوجية الأمريكية إذا استمر الاتجاه ذاته.
كما أن تقليص دعم الطاقة النظيفة وتشديد القيود على هجرة الكفاءات، خصوصاً تأشيرات إتش-1بي، قد يؤدي إلى خسارة ميزة تنافسية في مجالات ناشئة كالذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمية والمواد المتقدمة، رغم تحديات شيخوخة السكان في الصين.
وأبرز درس من التجربة الصينية هو نجاح “اللعب على المدى الطويل”. وإذا كانت الصين تصبر لعقود لتحصد نتائج إستراتيجيتها، فإن الدور اليوم على أمريكا هو تحسين استغلال الوقت، تجنب مغامرات عسكرية مكلفة، وتركيز الموارد على الداخل.
الرهان الحقيقي ليس في احتواء الصين، بل في إنقاذ القدرة الأمريكية على التجدد، وتقليد الانضباط الإستراتيجي الصيني، لا النموذج السياسي.


