تقارير
أخر الأخبار

حظر المسيّرات الصينية في الولايات المتحدة: الأمن القومي يقتحم سلاسل التكنولوجيا والأسواق

تقارير | بقش

أدخلت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سوق الطائرات المُسيرة في الولايات المتحدة مرحلة جديدة من عدم اليقين، بعد أن قررت لجنة الاتصالات الفيدرالية فرض حظر على المسيرات الجديدة المصنّعة في الخارج، وهو ما يعني عملياً إقصاء الطائرات الصينية الصنع من السوق الأمريكية. القرار، الذي قُدّم تحت عنوان “مخاوف الأمن القومي”، لا يقف عند حدود تنظيمية ضيقة، بل يفتح ملفاً أوسع يتقاطع فيه الأمن، والتكنولوجيا، وسلاسل الإمداد، والمنافسة الجيوسياسية مع الصين.

توقيت القرار ليس عرضياً. فالولايات المتحدة تستعد خلال السنوات القليلة المقبلة لاستضافة أحداث عالمية كبرى، من كأس العالم لكرة القدم إلى دورة الألعاب الأولمبية في لوس أنجلوس، إضافة إلى احتفالات الذكرى الـ250 لتأسيسها. هذه الفعاليات، التي تُعد أهدافاً محتملة لأي تهديد أمني، أعادت الطائرات المُسيرة إلى صدارة المخاوف، ليس فقط كأدوات تصوير أو استخدام مدني، بل كمنصات قد تُستغل في أعمال إجرامية أو استخباراتية.

من هذا المنطلق، اختارت واشنطن مقاربة وقائية واسعة النطاق، لا تقتصر على شركة بعينها، بل تمتد لتشمل جميع المسيرات والمكونات الحيوية المصنّعة خارج الولايات المتحدة. هذا التوسّع في التعريف يعكس تحوّلاً من استهداف موردين محددين إلى التشكيك في منظومة التصنيع الأجنبية ككل.

لكن خلف هذا الخطاب الأمني، يبرز سؤال جوهري: هل نحن أمام قرار أمني صرف، أم خطوة استراتيجية لإعادة توطين صناعة الطائرات المُسيرة داخل الولايات المتحدة، بعد سنوات من الاعتماد شبه الكامل على التكنولوجيا الصينية؟

من الهيمنة الصينية إلى قرار الإقصاء

خلال العقد الماضي، تحولت الشركات الصينية، وعلى رأسها DJI وAutel، إلى لاعبين مهيمنين في سوق الطائرات المُسيرة الأمريكية. منتجاتها لم تُستخدم فقط من قبل هواة التصوير وصناع الأفلام، بل دخلت بقوة في الزراعة، وأعمال المسح، ورسم الخرائط، وحتى في إنفاذ القانون، حيث اعتمدت عليها أجهزة شرطية في مدن أمريكية كبرى.

هذا الانتشار الواسع خلق اعتماداً هيكلياً على التكنولوجيا الصينية وفق اطلاع مرصد “بقش”، ليس فقط بسبب الأسعار التنافسية، بل أيضاً بسبب الأداء العالي وتعدد الاستخدامات، وهو ما جعل البدائل الأمريكية أقل جاذبية من الناحية الاقتصادية والتقنية. ومع مرور الوقت، أصبح هذا الاعتماد نقطة ضعف استراتيجية في نظر صانعي القرار.

إقرار الكونغرس مشروع قانون الدفاع السنوي شكّل نقطة التحول، إذ فتح الباب رسمياً لمراجعة المخاطر المرتبطة بالطائرات المُسيرة الصينية. ومع انتهاء المهلة المحددة للمراجعة، جاءت النتيجة بتوصيف هذه المسيرات ومكوناتها باعتبارها “مخاطر غير مقبولة” على الأمن القومي وسلامة الأفراد.

بهذا القرار، لم تعد الهيمنة الصينية في السوق ميزة تنافسية، بل تحولت إلى عبء سياسي وأمني، ما مهّد الطريق لإقصائها تحت غطاء تشريعي وتنظيمي، بدلاً من مواجهة تجارية مباشرة.

رغم الصيغة الصارمة للقرار، تركت لجنة الاتصالات الفيدرالية هامشاً ضيقاً للاستثناءات، عبر منح وزارتي الدفاع والأمن الداخلي صلاحية استثناء طائرات أو مكونات محددة إذا تبيّن أنها لا تشكل خطراً أمنياً. هذا الاستثناء يعكس إدراكاً ضمنياً بصعوبة الفصل الفوري والكامل عن التكنولوجيا الأجنبية.

غير أن هذا الهامش لا يغيّر من جوهر القرار، الذي يضع عبء الإثبات على المستخدمين والمصنّعين، لا على الجهات التنظيمية. أي أن الأصل هو الحظر، والاستثناء يتطلب مساراً معقداً من الموافقات الأمنية، ما يقلّص فعلياً فرص الاستفادة من هذه المرونة.

في الواقع العملي، يعني ذلك أن المؤسسات والجهات التي تعتمد حالياً على الطائرات الصينية ستواجه مرحلة انتقالية قاسية، سواء عبر البحث عن بدائل محلية أعلى كلفة، أو انتظار استثناءات غير مضمونة، أو إعادة هيكلة عملياتها بالكامل.

هذا الوضع يعكس توتراً كلاسيكياً بين متطلبات الأمن القومي وواقع السوق، حيث تُفرض اعتبارات استراتيجية طويلة الأمد على حساب كفاءة فورية اعتادت عليها القطاعات المدنية والأمنية على حد سواء.

بكين ترد: الأمن أم الحماية التجارية؟

الرد الصيني جاء سريعاً وحاداً حسب متابعة بقش، إذ وصفت بكين القرار الأمريكي بأنه إجراء تمييزي، وطالبت بما سمته “تصحيح الممارسات الخاطئة” وتوفير العدالة للشركات الصينية. هذا الخطاب يعكس إدراك الصين أن المسألة تتجاوز الطائرات المُسيرة، وتمس نمطاً أوسع من القيود الأمريكية على التكنولوجيا الصينية.

شركة DJI بدورها عبّرت عن خيبة أملها، معتبرة أن المخاوف بشأن أمن البيانات لا تستند إلى أدلة ملموسة، وأن القرار يعكس نزعة حمائية تتعارض مع مبادئ السوق المفتوحة. هذا الدفاع يعيد الجدل إلى نقطة مألوفة في الصراع التكنولوجي بين واشنطن وبكين، حيث تتهم كل جهة الأخرى بتسييس التكنولوجيا.

من منظور صيني، يُنظر إلى القرار كحلقة جديدة في سلسلة محاولات أمريكية لتقييد صعود الشركات الصينية في القطاعات المتقدمة، من الاتصالات إلى الذكاء الاصطناعي والطائرات المُسيرة. أما من المنظور الأمريكي، فيُقدَّم القرار كتصحيح لمسار اعتمد طويلاً على مورد خارجي في قطاع حساس.

هذا التباين في السرديات يعكس عمق الانقسام الجيوسياسي، ويؤكد أن التكنولوجيا باتت ساحة مواجهة بحد ذاتها، لا مجرد أداة اقتصادية.

السوق المحلي بين الخسارة والفرصة

على المستوى الداخلي، أحدث القرار انقساماً واضحاً بين المستخدمين والمصنّعين حسب قراءة بقش. فالكثير من العاملين في مجالات التدريب الشرطي والتحليل الجنائي والزراعة عبّروا عن قلقهم من الأثر المباشر للحظر، مؤكدين أن الطائرات الصينية كانت خياراً عملياً يصعب تعويضه سريعاً.

في المقابل، يرى مصنعون أمريكيون أن خروج DJI من السوق يخلق فرصة نادرة لإعادة بناء صناعة محلية كانت مهمّشة لسنوات. تدفق الاستثمارات الجديدة إلى شركات أمريكية ناشئة يعكس رهانات على أن الحظر سيفرض طلباً مضموناً على المنتجات المحلية، حتى وإن كانت أقل تنافسية في المرحلة الأولى.

غير أن توسيع نطاق الحظر ليشمل جميع المكونات الأجنبية أثار مخاوف حتى داخل القطاع الأمريكي نفسه، إذ اعتبره بعض المصنعين خطوة غير متوقعة قد تعقّد سلاسل الإمداد وترفع التكاليف بشكل حاد في المدى القصير.

بهذا المعنى، فإن القرار لا يخلق رابحين مطلقين وخاسرين مطلقين، بل يعيد توزيع الأعباء والمكاسب على مراحل، مع تحميل السوق المحلي كلفة التحول نحو الاعتماد الذاتي.

ويشير تحليل بقش إلى أن حظر المسيرات الصينية في الولايات المتحدة لا يمكن قراءته كإجراء أمني معزول، بل كجزء من تحوّل استراتيجي أوسع يسعى إلى فك الارتباط التكنولوجي مع الصين في القطاعات الحساسة. الأمن القومي هنا لا يعمل كذريعة فحسب، بل كأداة لإعادة توجيه السوق وبناء قدرات محلية مفقودة.

لكن هذا المسار يحمل كلفة انتقالية واضحة، ستتحملها جهات مدنية وأمنية اعتادت على كفاءة التكنولوجيا الصينية. وفي المقابل، تراهن واشنطن على أن هذه الكلفة مؤقتة، وأنها الثمن اللازم لاستعادة السيطرة على سلاسل الإمداد التكنولوجية.

في النهاية، يعكس القرار حقيقة باتت أكثر وضوحاً: في عالم ما بعد العولمة غير المقيدة، لم تعد التكنولوجيا محايدة، بل أصبحت امتداداً مباشراً للسيادة والأمن القومي.

زر الذهاب إلى الأعلى