تقارير
أخر الأخبار

بلومبيرغ: لماذا لم تعد فكرة هزيمة الصين واقعية في الحسابات الأمريكية؟

تقارير | بقش

على امتداد العقدين الماضيين، بنت الولايات المتحدة مقاربتها تجاه الصين على فرضية ضمنية مفادها أن الصعود الصيني ظاهرة مؤقتة، يمكن احتواؤها أو كسرها عبر مزيج من الضغوط التجارية والقيود التقنية والعزل الجيوسياسي. غير أن السنوات الأخيرة، وخصوصاً مسار الحرب التجارية، كشفت أن هذه الفرضية لم تعد تصمد أمام الوقائع الاقتصادية والهيكلية.

وبحسب تحليل نشرته شبكة بلومبيرغ واطلع عليه “بقش”، لم تعد فكرة “الفوز” على الصين واقعية في الحسابات الأمريكية، مع اتساع الفجوة بين الخطاب السياسي والوقائع الاقتصادية والتقنية على الأرض.

فالتصعيد الجمركي المتبادل، الذي بلغ ذروته برسوم قياسية قبل أن يتراجع فجأة إلى مستويات أدنى، لم يُنتج تحولاً استراتيجياً في سلوك بكين، بقدر ما أظهر حدود القوة الأمريكية عندما تُستخدم أدوات قصيرة الأجل لمواجهة نموذج تنموي طويل النفس. والنتيجة أن خطاب “الانتصار” الذي رافق بعض الاتفاقات بدا سياسياً أكثر منه اقتصادياً.

في جوهر المسألة، لا يتعلق الصراع الأمريكي–الصيني بمن سيربح جولة تفاوضية، بل بمن يملك القدرة على الصمود وإعادة التموضع داخل نظام عالمي مترابط. وهنا تحديداً، برزت الصين كلاعب يصعب إخضاعه لمنطق الكسر السريع، لأنها لا تعتمد على سوق واحد، ولا على تقنية واحدة، ولا على مسار واحد للتنمية.

من هذا المنطلق، بات السؤال الأكثر إلحاحاً في واشنطن ليس كيف تُهزم الصين، بل كيف يمكن إدارة منافسة معها دون إلحاق ضرر بنيوي بالاقتصاد الأمريكي نفسه.

التجارة كساحة اختبار: حين تنقلب أوراق الضغط

أظهرت الحرب التجارية أن فرض الرسوم، مهما بلغت شدتها، لا يضمن فرض الإرادة السياسية وفق قراءة بقش. فالتراجع المتكرر عن تعريفات مرتفعة، والتسويات التي أعادت إنتاج الوضع القائم تقريباً، عكست حقيقة أن واشنطن لا تملك هامشاً غير محدود للمضي في التصعيد دون تكلفة داخلية.

الأهم أن بكين تعاملت مع هذه الضغوط ببراغماتية باردة، فامتصّت الصدمة الأولى، ثم أعادت ترتيب أولوياتها الصناعية والتجارية، مستفيدة من حجم سوقها الداخلية، ومن شبكات توريد ممتدة خارج الإطار الأمريكي. وبدلاً من الانكماش، واصلت الصين توسيع حضورها في قطاعات تصديرية وتقنية حساسة.

هذا السلوك أضعف منطق “اللعبة الصفرية” الذي روّج له بعض صناع القرار في الولايات المتحدة، وأظهر أن التداخل الاقتصادي العميق يجعل من الصعب إلحاق خسارة قاضية بطرف دون أن ترتد آثارها على الطرف الآخر.

وبذلك، تحولت التجارة من أداة حسم إلى مرآة تكشف حدود القوة، لا سيما حين تكون سلاسل الإمداد موزعة عالمياً ولا يمكن إعادة بنائها بقرار إداري.

سلاسل التوريد: حيث تمتلك الصين أفضلية الزمن

أحد أهم عناصر القوة الصينية لا يكمن في فائضها التجاري وحده، بل في سيطرتها على حلقات حرجة داخل سلاسل التوريد العالمية، خصوصاً في المعادن النادرة والمكونات الوسيطة التي لا تظهر في العناوين السياسية، لكنها تشكّل العمود الفقري للصناعات الحديثة.

هذه السيطرة ليست نتاج قرار آني، بل حصيلة عقود من الاستثمار في التعدين والمعالجة والتصنيع، ما منح الصين ميزة يصعب تعويضها سريعاً. وحتى مع بدء الولايات المتحدة ضخ استثمارات لتقليص الاعتماد، فإن بناء بدائل كاملة يحتاج سنوات، إن لم يكن عقوداً.

في المقابل، تمتلك واشنطن نقاط قوة واضحة في مجالات مثل أشباه الموصلات المتقدمة، لكنها اكتشفت أن استخدام هذه الورقة كسلاح سياسي يدفع الصين إلى تسريع البحث عن بدائل، حتى لو كانت أقل كفاءة في المدى القصير، لكنها كافية للحفاظ على استمرارية النمو والتطوير.

وهكذا، بات ميزان الاعتماد المتبادل يميل نحو توازن غير مريح: كل طرف يملك أدوات ضغط، لكن لا أحد يملك القدرة على تعطيل الطرف الآخر دون أن يتحمل كلفة عالية.

الصين لا تلحق بالركب بل تصنعه

في مجالات يُفترض أنها ساحات تفوق غربي تقليدي، مثل الطاقة النظيفة والسيارات الكهربائية والروبوتات، لم تعد الصين مجرد منافس ناشئ، بل أصبحت في كثير من الأحيان لاعباً مُحدِّداً لإيقاع السوق العالمي.

ففي الطاقة المتجددة، لا يقتصر التفوق الصيني على الإنتاج الكمي حسب اطلاع بقش، بل يمتد إلى تخفيض التكاليف وبناء منظومات صناعية متكاملة تجعل من الصعب على المنافسين مجاراة الأسعار دون دعم حكومي ضخم. الأمر ذاته ينطبق على البطاريات، حيث تمكّنت الشركات الصينية من الجمع بين الحجم والتقنية وسرعة الانتشار.

أما في مجال الأتمتة والروبوتات الصناعية، فقد نجحت الصين في تحويل التكنولوجيا إلى إنتاج فعلي واسع النطاق داخل مصانعها، وهو فارق جوهري بين امتلاك الابتكار نظرياً، وبين دمجه في الاقتصاد الحقيقي.

حتى في الذكاء الاصطناعي، حيث تتقدم الولايات المتحدة تقنياً، تُظهر الصين قدرة لافتة على تطوير نماذج أقل كلفة، ونشرها بسرعة، والاستفادة منها اقتصادياً، ما يقلل الفجوة العملية حتى لو بقيت الفجوة التقنية قائمة.

نقاط الضعف الصينية: تحديات حقيقية لا تعني الانهيار

لا يعني الاعتراف بمتانة النموذج الصيني تجاهل التحديات العميقة التي يواجهها. فالاقتصاد الصيني يرزح تحت عبء أزمة عقارية طويلة، وضغوط انكماشية، وتحولات ديموغرافية قد تُضعف زخمه في المدى البعيد.

شيخوخة السكان، وتقلص قوة العمل، وتباطؤ الطلب الداخلي، كلها عوامل تفرض قيوداً حقيقية على النمو المستقبلي. كما أن الانتقال من اقتصاد يقوده الاستثمار إلى اقتصاد قائم على الابتكار ليس مضمون النتائج، ويحمل مخاطر الوقوع في ما يُعرف بفخ الدخل المتوسط.

لكن الفارق الجوهري أن هذه التحديات تُدار ضمن رؤية استراتيجية طويلة الأجل، تعطي الأولوية لما تسميه بكين “صناعات المستقبل”، وتسعى إلى تحويل الضغوط إلى حوافز لإعادة الهيكلة، لا إلى مؤشرات انهيار وشيك.

وهنا تحديداً أخطأت كثير من التنبؤات الغربية التي راهنت مراراً على سقوط قريب لم يتحقق، لأنها أسقطت من حسابها قدرة النظام الصيني على التكيّف وإعادة الضبط.

من هاجس الفوز إلى إدارة المنافسة

تُظهر التجربة الأخيرة أن السعي الأمريكي لـ“الفوز” على الصين كهدف سياسي مباشر لم يعد قابلاً للتحقق دون كلفة مفرطة. فالصين ليست اقتصاداً هامشياً يمكن عزله، ولا نموذجاً هشاً يمكن كسره بضغوط قصيرة الأجل وفق تحليل بقش.

البديل الأكثر واقعية يتمثل في إعادة تعريف النجاح: ليس بإخراج الصين من النظام العالمي، بل بتقليل مواطن الضعف الأمريكية، وتعزيز المرونة، وبناء سلاسل توريد أكثر تنوعاً، والاستثمار طويل الأجل في الابتكار ورأس المال البشري.

في عالم متعدد الأقطاب، قد لا يكون الانتصار هو إلحاق الهزيمة بالخصم، بل القدرة على التعايش مع منافس قوي دون الوقوع في فخ التصعيد غير المحسوب. ومن هذه الزاوية، تبدو الدعوة إلى التخلي عن وهم “هزيمة الصين” أقل تعبيراً عن تراجع، وأكثر تعبيراً عن نضج استراتيجي طال انتظاره.

زر الذهاب إلى الأعلى