تقارير
أخر الأخبار

2025… عام تصفية الأعمال: الإفلاس يتحول من ظاهرة دورية إلى مسار عالمي

تقارير | بقش

لم يكن عام 2025 مجرد سنة تباطؤ اقتصادي عابرة، بل تحوّل إلى اختبار قاسٍ لقدرة الشركات على البقاء في بيئة تتقاطع فيها ثلاثة ضغوط ثقيلة: تضخم لم يُحتوَ بالكامل، فائدة مرتفعة أطالت أمد كلفة التمويل، ورسوم جمركية أعادت خلط حسابات التجارة وسلاسل التوريد. في هذا المشهد، وجدت آلاف الشركات نفسها مضطرة للاختيار بين تمرير الكلفة إلى المستهلك والمخاطرة بفقدان الطلب، أو امتصاصها حتى تتآكل السيولة.

المشكلة أن كثيراً من الشركات حاولت تأجيل الصدمة قدر الإمكان، فثبّتت الأسعار أو رفعتها بشكل محدود، لكنها اصطدمت لاحقاً بواقع أكثر قسوة: كلفة شحن أعلى، مواد أولية أغلى، تمويل أشد ندرة، ثم قرارات تجارية مفاجئة قلبت هوامش الربح إلى خسائر. عند هذه النقطة، لم يعد الإفلاس حدثاً استثنائياً، بل خياراً قانونياً لإدارة الانهيار.

تقديرات مؤسسات التأمين الائتماني تشير إلى أن موجة الإعسار لم تبلغ ذروتها بعد، بل ما تزال في طور الصعود. فحتى في الاقتصادات الكبرى، حيث يُفترض أن تمتلك الشركات قدرة أعلى على امتصاص الصدمات، بدا أن الضغوط المركبة أقوى من نماذج الأعمال التي بُنيت على تمويل رخيص وتجارة عالمية مستقرة.

واللافت أن هذه الموجة لم تقتصر على شركات هامشية أو قطاعات تقليدية متآكلة، بل امتدت إلى صناعات حديثة، وشركات نمو، وحتى رموز استهلاكية كانت تُعد حتى وقت قريب محصّنة نسبياً.

أمريكا الشمالية: الرسوم والفائدة تخنقان الصناعة والاستهلاك

في الولايات المتحدة وكندا، بدت صورة الإفلاس مرتبطة بشكل مباشر بالسياسات التجارية والمالية في آن واحد. فشركات التصنيع، خصوصاً المرتبطة بسلاسل توريد عالمية، وجدت نفسها محاصرة بين رسوم ترفع كلفة المدخلات، وفائدة تبتلع قدرة الشركات على إعادة التمويل.

في قطاع الصناعات التحويلية وقطع غيار السيارات، كشفت ملفات الإفلاس عن فجوات واسعة بين الأصول والالتزامات، في مشهد يعكس كيف يمكن لتباطؤ الطلب أن يتحول بسرعة إلى أزمة سيولة عندما يصبح الدين عبئاً لا أداة نمو. هذه الصناعات، شديدة الحساسية للدورات الاقتصادية، كانت من أوائل من دفع الثمن.

أما شركات التكنولوجيا الاستهلاكية، فقد اصطدمت بواقع مختلف لكنه لا يقل قسوة: منافسة سعرية شرسة، وتراجع قدرة المستهلك على الإنفاق، وارتفاع كلفة التمويل في وقت واحد. هنا لم يعد الابتكار أو العلامة التجارية كافية لضمان البقاء، بل أصبحت القدرة على الصمود المالي هي الفيصل.

وفي النقل والطيران، كشفت حالات الإفلاس أن نماذج الأعمال التي بُنيت على توسع سريع وهوامش ضيقة لم تعد قابلة للاستمرار. ارتفاع كلفة الوقود والتمويل، مع تباطؤ الطلب، دفع الشركات إلى إعادة هيكلة قاسية أو الخروج المؤلم من السوق.

أوروبا: اقتصاد متقدم… وهشاشة غير متوقعة

في القارة الأوروبية، حملت موجة الإفلاس طابعاً مختلفاً، لكنه لا يقل خطورة. فهنا، لم تكن المشكلة فقط في الرسوم أو الفائدة، بل في تراكم صدمات متعددة منذ الجائحة، مروراً بأزمة الطاقة، وصولاً إلى تشدد السياسة النقدية.

في فرنسا وألمانيا، أظهرت البيانات أن قطاعات النقل والبناء والصناعة الثقيلة هي الأكثر عرضة للانهيار، إذ لم تعد قادرة على تمرير الزيادات في الكلفة إلى العملاء في بيئة طلب ضعيف ومنافسة عالية. التوقعات التي راهنت على تحسن تدريجي في النصف الثاني من العام تبخرت أمام واقع اقتصادي أكثر تصلباً.

اللافت أن موجة الإعسار لم تقتصر على الشركات الصغيرة، بل طالت علامات صناعية معروفة ومشاريع كانت تُصنّف ضمن “الرهانات الاستراتيجية”، خصوصاً في مجالات التحول الأخضر والتكنولوجيا الصناعية. تشدد الائتمان حوّل هذه المشاريع من قصص نمو إلى أعباء مالية ثقيلة.

حتى القطاعات الثقافية والإبداعية لم تكن بمنأى عن العاصفة، ما يعكس اتساع نطاق الضغوط وعمقها، ويطرح تساؤلات جدية حول قدرة الاقتصادات الأوروبية على تحقيق توازن بين الطموح الصناعي والاستقرار المالي.

آسيا: الإنتاج القوي لا يمنع الانهيار المالي

في آسيا، بدت المفارقة أكثر وضوحاً. فالقارة التي تقود الإنتاج الصناعي العالمي وتشهد توسعاً في قطاعات مثل السيارات والطاقة الشمسية، سجّلت في الوقت نفسه حالات إفلاس لافتة في مشاريع ضخمة.

في الصين، كشفت حالات تصفية مشاريع صناعية مشتركة أن المنافسة الشرسة وضغوط الأسعار يمكن أن تسحق حتى اللاعبين الكبار عندما يصبح التشغيل غير مجدٍ اقتصادياً. وفرة الإنتاج لم تكن ضمانة للبقاء، بل تحولت أحياناً إلى عامل ضغط إضافي في سوق مشبعة.

قطاع الطاقة الشمسية، رغم زخمه العالمي، قدم مثالاً صارخاً على ذلك. فالتوسع السريع والمنافسة السعرية أدّيا إلى تآكل الهوامش، ومع تشدد التمويل، لم يعد بعض المنتجين قادرين على الاستمرار، ما دفعهم إلى اللجوء للإفلاس كوسيلة لوقف النزيف.

وفي اليابان، عكست الأرقام أن الاقتصاد المتقدم والمنضبط ليس محصناً من موجات الإعسار عندما تتراكم الضغوط على الشركات المتوسطة والصغيرة، خصوصاً في بيئة نمو ضعيف وتكاليف تشغيل مرتفعة.

الإفلاس كأداة لإعادة فرز السوق

ما تكشفه خريطة الإفلاسات في 2025 هو أن العالم دخل مرحلة “غربلة اقتصادية” قاسية. لم يعد البقاء للأكبر أو للأشهر، بل للأكثر قدرة على إدارة الكلفة والسيولة والمخاطر في آن واحد. الرسوم الجمركية، التي رُوّج لها كأداة لحماية الصناعة، تحولت في كثير من الحالات إلى عامل ضغط إضافي سرّع خروج الشركات الأضعف.

الأخطر أن هذه الموجة قد لا تكون ذروة الدورة، بل مقدمة لمرحلة إعادة تشكيل أعمق للأسواق. فمع استمرار الفائدة المرتفعة والتوترات التجارية، قد يتحول الإفلاس من ظاهرة تصحيحية مؤقتة إلى مسار ممتد يعيد رسم خريطة القطاعات والشركات على مستوى العالم.

في هذا السياق، لا يبدو عام 2026 بالضرورة عاماً للتعافي السريع، بل ربما عاماً تتضح فيه نتائج هذا الفرز القاسي: أسواق أقل ازدحاماً، شركات أقل عدداً، لكن بتوازنات جديدة تُبنى على واقع اقتصادي أكثر صرامة وأقل تسامحاً مع الهشاشة.

زر الذهاب إلى الأعلى