تعيش مصر أسوأ أزمة عملات أجنبية على الإطلاق، ألقت بظلالها على كافة القطاعات الصناعية والحيوية في الاقتصاد المصري، لتوضع الحكومة المصرية في مأزق العجز عن تمويل الواردات وجذب المستثمرين إلى البلاد، وتدخل البلاد منعطفاً خطراً بتهاوي قيمة العملة المصرية لأكثر من 70 جنيهاً للدولار الواحد في مستوى غير مسبوق ولم يشهد المصريون مثيلاً له، وسط ارتفاع مهول في الأسعار، في حين تنأى الحكومة بنفسها عن مسؤوليتها عن قفزات الأسعار وتُرجعها إلى «ضعف الجنيه» وعوامل خارجية. واستقبل المصريون العام الحالي مطلع يناير بارتفاع في الأسعار بنسب تراوحت ما بين 15% و35%، ففي بيانات رصدها «بقش» قفزت أسعار تذاكر قطارات المترو بنحو 30%، وأسعار باقات الإنترنت والاتصالات بما بين 15 و33%، وأسعار الكهرباء بقرابة 20%، وتصاعدت أسعار رسوم تسجيل السيارات ونقل الملكية بنسب تفوق 200%، بينما ارتفعت أسعار مواد البناء والسلع الاستهلاكية والغذائية بنسب لا تقل عن 10%. ولم ينتهِ شهر يناير الماضي إلا وقد بلغ سعر الدولار في السوق السوداء أكثر من 70 جنيهاً مصرياً، مقابل السعر الرسمي الأقل من 30 جنيهاً، وهو ما أثار المخاوف والسخرية معاً لدى المواطنين في منصات التواصل الاجتماعي، كما لم يهدأ الشارع المصري والأسواق بسبب الأزمة المتصاعدة التي لم تجد لها الحكومة حلاً، علماً بأن الرئيس المصري «عبدالفتاح السيسي» تعامل مع الأزمة مسبقاً، في العام الماضي، باعتبار الدولار كان دائماً مشكلة لمصر بسبب أن الدولة تشتري الخدمات بالدولار وتبيعها للمواطنين بالجنيه. وفي الاقتصاد المصري الذي يغلب عليه الطابع العسكري، وصلت أزمة شحة الدولار في مصر إلى حد أن العديد من المنتجات اختفت من الأسواق، خصوصاً الأجهزة المنزلية والكهربائية والهواتف الذكية وقطع غيار السيارات، حيث اضطر بعض التجار والشركات إلى وقف بيع الكثير من منتجاتهم وامتنعوا عن طرحها في الأسواق بسبب الاضطراب والتفاوت الواضح في أسعار بيع وشراء العملات الأجنبية. كما أضافت حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة آثاراً جسيمة على اقتصاد مصر الذي يعاني بالأساس من الأزمة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية التي أدت إلى انسحاب العديد من المستثمرين من البلاد وفقاً لمتابعات مرصد «بقش» لهذا الملف عن كثب. ففي الوقت الحالي ثمة عدد من الصعوبات التي تواجهها «مصر» بسبب هذه الحرب، أبرزها أن قطاع السياحة المصري -الذي يُعد أحد أبرز مصادر العملة الأجنبية لمصر- كان بمثابة نقطة مضيئة قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر، وكانت الحكومة تعوِّل على نموه بنسبة 30 إلى 40% خلال العام الماضي، إلا أن عكس ذلك هو ما حدث، فقد انخفضت إيرادات السياحة ليس في مصر وحدها بل وفي البلدين المجاورين الآخرين لـ«إسرائيل»، «الأردن» و«لبنان»، إذ ألغى المسافرون والسياح عطلاتهم إلى منطقة «الشرق الأوسط» و«شمال أفريقيا» أو قاموا بتأجيلها على الأقل. إضافة إلى ذلك، تأثرت «قناة السويس» التي توفر لمصر نحو 8% من الإيرادات وجزءاً كبيراً من الدخل الأجنبي، باضطرابات «البحر الأحمر» وإغلاق «قوات صنعاء» مضيق «باب المندب» أمام السفن الإسرائيلية والمرتبطة بإسرائيل حصراً، والذي أدى بشركات شحن عالمية إلى تجنب البحر وقناة السويس. ومع بداية العام 2024 قلَّلت القاهرة من تأثير توترات البحر الأحمر على حركة الملاحة بقناة السويس، لكن مع تطور الأحداث طوال شهر يناير خرجت هيئة قناة السويس في نهاية الشهر لتقول إن إيرادات القناة هذا العام -في حال استمرار الأزمة- قد تصل إلى 6 مليارات دولار، ما يعني انخفاضاً بنسبة 40% عما حققته القناة في 2023، والذي بلغ 10.25 مليار دولار، مشيرةً إلى أن استمرار توترات البحر الأحمر -الذي يتواجد فيه تحالف دولي بحري تقوده «واشنطن»- سيؤثر بشدة على إيرادات القناة. أمام كل ذلك، قام بنك «جيه بي مورغان» -أكبر بنك في أمريكا- باستبعاد مصر من بعض مؤشراته، وهو ما سيضيف ما بين مليار و2 مليار دولار إلى متطلبات التمويل الخارجي للبلاد في 2024، بسبب التدفقات الخارجية المرتبطة بهذه الخطوة. وغيَّرت وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني نظرتها المستقبلية لمصر من مستقرة إلى سلبية، ويُشار إلى أن الأزمة الاقتصادية المصرية تفاقمت خلال الأشهر القليلة الماضي بعد كل تعديل لإحدى وكالات التصنيف الائتماني. وبعد خطوة «موديز» علَّقت وزارة المالية بأن الحكومة المصرية تعمل على إدارة مخاطر الاقتصاد الكلي بمرونة لاحتواء الصدمات الخارجية المتتالية، وتتعامل بتوازن وحرص شديد مع الآثار السلبية الناتجة عن التوترات الجيوسياسية المؤثرة على النشاط الاقتصادي. لماذا شحَّ الدولار في مصر؟ يرجع ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى المضاربات الحاصلة في مصر نتيجة التوترات التي تشهدها المنطقة، إضافة إلى أن الجنيه المصري تكبد تخفيضات في قيمته منذ مارس 2023 أدت لفقدان العملة نصف قيمتها، مع فشل تعزيز تدفقات النقد الأجنبي. وقد بدأت الأزمة فعلياً بعد أن سحب مستثمرو السندات الأجنبية حوالي 20 مليار دولار من استثماراتهم في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، بحثاً عن ملاذ آمن آخر لأموالهم، وتدخلت دول الخليج مع ودائع بقيمة 13 مليار دولار ومشتريات أصول أخرى بقيمة 3.3 مليار دولار، لكن مستثمري المحافظ ظلوا بعيداً عن مصر، وواجه القطاع الخاص صعوبة في تمويل الواردات. كما انخفضت الواردات المصرية في النصف الثاني من 2022 إلى 37 مليار دولار مقارنة بـ42 مليار دولار في الفترة نفسها من العام السابق، إلى جانب تراجُع تحويلات المصريين العاملين في الخارج، وهي أحد المصادر المهمة للعملة الأجنبية، من 15.5 مليار دولار في النصف الثاني من عام 2021 إلى 12 مليار دولار في نفس الفترة من العام السابق. ونشطت السوق السوداء بعد أن أصبح الدولار فيها بمثابة «سلعة» وليس وسيلة، حيث اتجه معظم الأفراد إلى الاستثمار في الدولار، وأدى عدم توافر الدولار في الجهاز المصرفي إلى اتجاه معظم المستوردين لتلبية احتياجاتهم من السوق السوداء مما أدى إلى تزايد المضاربة على الدولار ثم وصوله إلى مستواه غير المسبوق مقابل أكثر من 70 جنيهاً، وهذه المقدمات أسهمت في ارتفاع معدل التضخم لتُضاف إلى المؤثرات الاقتصادية الناجمة عن الحرب الإسرائيلية على غزة وانخفاض الموارد الدولارية من قطاع السياحة وقناة السويس. ويرى اقتصاديون أن تزايد الضغوط التضخمية بمصر، أو ما يُسمى التضخم المستورد الناجم عن اعتماد مصر على استيراد معظم الاحتياجات الأساسية، كان نتيجةً حتمية لاتساع الفرق بين ما تصدّره مصر وتستورده، مع وجود فجوة دولارية بقيمة 30 مليار دولار، وتتزامن هذه الفجوة مع الحاجة إلى استثمارات تصل إلى 100 مليار دولار سنوياً حتى العام 2028 للتمكن من التعامل مع الفجوة وفق ما أعلن عنه رئيس مصر في وقت سابق. هذا وشهدت مصر موجة اقتراض ضاعفت الديون الخارجية أربع مرات، وقد بلغ الدين الخارجي المصري نحو 164.5 مليار دولار في نهاية سبتمبر الماضي، منها 42.3 مليار دولار يجب سدادها في 2024 وحده. مصر و«صندوق النقد»: بين الأزمة والدعم الإضافي في يناير الماضي زارت بعثة «صندوق النقد الدولي» مصر، لإجراء مراجعات خاصة ببرنامج التمويل الذي تم إقراره في نهاية 2022 والبالغة قيمته 3 مليارات دولار وتقديم دعم إضافي قدره 3 مليارات دولار ليصل الإجمالي إلى 6 مليارات دولار، وبعد أن كانت مصر في السابق تتحفظ على تنفيذ شروط الصندوق، أبدت هذه المرة التزاماً لتنفيذ كافة عناصر وشروط البرنامج، وتتلخص هذه الشروط في خصخصة أصول الدولة، وإجراء مرونة حقيقية (تعويم) في الجنيه المصري. وتعثَّر برنامج الدعم (القرض) مع صندوق النقد الدولي مع إحجام مصر عن تعويم عملتها وعدم تلبية بيع الأصول المملوكة للدولة، مما دفع وكالات التصنيف الرئيسية الثلاث إلى خفض التصنيف السيادي لمصر لمستوى عالي المخاطر، وقد نظرت مصر أن الضغط كبير عليها «لذلك يجب التفكير في حلول مبتكرة لأن الحلول التقليدية قد تكون غير ناجحة» وفق تصريحات سابقة لوزير المالية المصري محمد معيط. وتمسَّك صندوق النقد بموقفه بأن لن يقدم أي دعم لمصر إلا في حال تنفيذ الشرطين الأساسيين، واعتبر الصندوق أن مرونة سعر الصرف يُعدُّ «حتمية» لحماية اقتصاد مصر من الصدمات الخارجية، كما أصرَّ الصندوق على أن تقوم الحكومة المصرية بسياسة مالية تمنح دوراً أكبر للقطاع الخاص المصري بعيداً عن الطابع العسكري للاقتصاد. والمنطق الاقتصادي يقول إن بيع الأصول العسكرية وخصخصة الشركات المصرية قد يستمر لثلاث سنوات على الأقل، إذ لابد أن تنتقل الأصول والشركات أولاً إلى أحد الصناديق السيادية، ثم تُعاد هيكلة الشركات وتحويلها بما يتوافق مع المعايير العالمية، فضلاً عن أن الحكومة المصرية لم تُبد حتى الآن استعداداً لخصخصة شركات الجيش أو بيعها، أو حتى إصدار عدد من القوانين لتحويل هذه الشركات إلى شركات مساهمة عادية قابلة للخصخصة. اشتدت الأزمة الاقتصادية في مصر بعد أن تعثَّر برنامج صندوق النقد الدولي لدعم البلاد، وصولاً إلى الوقت الراهن الخانق الذي يطالب فيه الصندوق بتحرير العملة وهيكلة الاقتصاد، وكذلك «رفع أسعار الفائدة» الذي من شأنه أن يضر بالمستثمرين الذين يريدون تنفيذ مشروعات صناعية بمصر. الحكومة المصرية قالت إن ديون صندوق النقد لدى مصر خلال العام المالي الحالي 2023/2024، وصلت إلى 29 مليار دولار، وأعلنت الحكومة -خلال يناير- أنها تمكنت من تسديد نحو 14.5 مليار دولار من هذه الديون. ويتبقى نحو 14.5 مليار دولار سيتم دفعها حتى شهر يونيو 2024، وقالت الحكومة إنه في العام المالي القادم 2024/2025 سيكون على مصر ديون تقدر بنحو 23 مليار دولار، وأن هناك 70% من الديون تتجه إلى المشروعات التنموية الخدمية ومنها المشروعات القومية التنموية ومشروعات حياة كريمة. ووفقاً لرئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري، فخري الفقي، فإن هناك خمسة مصادر متنوعة للدخل الأجنبي لمصر ما بين صادرات وواردات وتحويلات المصريين في الخارج وإيرادات قناة السويس والمناطق اللوجستية وقطاع السياحة، ورجَّح الفقي زيادة موارد صندوق النقد الدولي بسبب الأزمات والتوترات التي تشهدها عدة مناطق على مستوى العالم في الوقت الحالي، وقال حسب ما اطلع عليه «بقش» إن هناك نسبة من المنح التي يعطيها الصندوق لمشاركيه عند مواجهة حالة ركود، وإن الصندوق يقدم تسهيلات لمصر في تمويل برنامج الإصلاح. ويمكن أن يُقرأ نزول مصر عند شروط صندوق النقد بأنه سيؤدي إلى تحسن تدفق النقد الأجنبي إلى مصر عبر مسارين، أولهما مسار تحويلات المصريين من الخارج والتي خرج منها نحو 10 مليارات دولار للسوق السوداء، أما المسار الثاني فهو الأموال الساخنة التي قد تعود إذا انخفض الصرف وارتفع سعر الفائدة. وبنهاية الشهر الماضي ودخول فبراير، أعلن الصندوق أن المفاوضات لزيادة القرض المصري أصبحت في مراحلها الأخيرة، وأن العمل يجري على التفاصيل المتعلقة بالتنفيذ، مشيراً إلى أن إيرادات قناة السويس تراجعت في النصف الأول من يناير بمعدل 100 مليون دولار شهرياً، فيما تزايدت الخسائر في العملة الصعبة بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة. وكانت مصر قد أرجأت أي خطوات من شأنها أن تؤلم الاقتصاد المصري، إلى ما بعد فوز الرئيس المصري بفترة رئاسية جديدة لـ6 سنوات أخرى، ومن ثم التركيز على كيفية التعامل مع التضخم وتدهور الجنيه المصري والديون المحلية والأجنبية، في حين هي مطالَبة الآن بتوفير حصيلة كافية من النقد الأجنبية في البنوك والمصارف لفتح الاعتمادات للمستوردين. إلى جانب صندوق النقد، يظهر اتجاه آخر أمريكي لتقديم الدعم لمصر، فقد قالت وزيرة الخزانة الأمريكية «جانيت يلين» في يناير إن بلادها على استعداد لتقديم الدعم القوي للقاهرة وشددت على هدف تعزيز الاقتصاد المصري ودعم النمو الشامل والمستدام. وجاء التصريح الأمريكي متزامناً مع المشكلة المتعلقة بـ«معبر رفح» بين مصر وقطاع غزة، حيث تقول مصر إن تمرير المساعدات للفلسطينيين يحتاج إلى موافقة الكيان الإسرائيلي، فيما اتهم الأخير القاهرة بأنها هي من تمنع المساعدات. وأمام كل ذلك عبَّر متابعون سياسيون واقتصاديون عن مخاوفهم من أن الاستعداد الأمريكي لتقديم الدعم لمصر يتَّسم بالمصالح السياسية للدور المصري في قضية غزة الراهنة. واللافت أن تقديم الدعم الاقتصادي الأمريكي جاء على لسان وزيرة الخزانة، وأن هذا الدعم سيمتد ليشمل العمل مع مصر في القضايا الثنائية والإقليمية، وهو ما أكسب الدعم المفترض شكل دعم «مشروط» بالتعاون اقتصادياً وسياسياً. وكانت مصر في ديسمبر السابق أعلنت أن «الاتحاد الأوروبي» أبدى استعداده لزيادة الدعم الاقتصادي الأوروبي لمصر في إطار تقوية العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وفي ذاك الشهر بدأ الاتحاد الأوروبي بتنفيذ خطة استثمارية تهدف إلى تعبئة 9 مليارات يورو بغرض دعم تنمية مصر اقتصادياً. الحل خلال 6 سنوات والبداية من «التقشف» خلال يناير أثار رئيس الحكومة المصرية «مصطفى مدبولي» قلقاً واسعاً بقوله إن مصر ستحتاج 6 سنوات للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية واستعادة مسار النمو الذي كان قبل سنوات قليلة. والمدة التي طرحها رئيس الحكومة هي نفسها التي سيقضيها الرئيس المصري في ولايته الجديدة، في إشارةٍ على ما يبدو إلى أن الولاية المجدَّدة ستعمل على معالجة اختلالات السنوات القليلة الماضية، مما يدفع إلى التساؤل حول الإجراءات التي يمكن أن تتخذها الحكومة وتعمل عليها. قال مدبولي: «نعي تماماً حجم الأزمة ونعمل ليل نهار لصياغة حلول من أجل تجاوز الأزمة»، وأضاف: «لا نتحدث عن 20 أو 50 عاماً، بل هي 6 سنوات من الآن لنعمل على تجاوز هذه الأزمة ونتحرك حتى نصل إلى هذا العام ونستعيد خلال ذلك مسار النمو الذي كنا عليه قبل حدوث الأزمة العالمية، ونحقق المعدلات التي يحلم بها كل مواطن مصري». ونالت هذه التصريحات استغراباً في أوساط المصريين بسبب ما قالوا إنه «حديث مكرر» ولم يوضح الأساس النظري والعملي الذي به تم تحديد المدة بست سنوات. بعدها أعلنت الحكومة المصرية عن تخفيض قدره 15% في الخطة الاستثمارية بالموازنة العامة للسنة المالية 2023-2024، وبالتالي فإن الحكومة لن تبدأ في أية مشاريع جديدة خلال هذه السنة، ولكن سيتم إعطاء الأولوية للمشاريع التي اكتملت بنسبة 70% أو أكثر. وأقرَّت الحكومة مشروع قرار رئيس مجلس الوزراء بشأن «ترشيد الإنفاق الاستثماري» بالجهات الداخلة في الموازنة العامة للدولة والهيئات العامة الاقتصادية بسبب الأزمة الاقتصادية، ونصَّ مشروع القرار على أن يُعمل في شأن ترشيد الإنفاق الاستثماري بخطة التنمية الاقتصادية للعام المالي 2023-2024 (تبدأ السنة المالية في مصر في أول يوليو وتنتهي في 30 يونيو). وأرجأت الحكومة تنفيذ المشروعات حديثة الإدراج بالخطة (خلال العام السابق أو العام الجاري)، وذلك بحظر إبرام أية تعاقدات على تلك المشروعات سواء بالأمر المباشر أو المناقصات العامة حتى نهاية شهر يونيو، وكذا عدم التعاقد على شراء سيارات الركوب، وعدم البدء في أية مشروعات جديدة هذا العام، مع التركيز على الاحتياجات الاستثمارية الضرورية والملحة دون غيرها، في ضوء الالتزام بالتوجيهات الخاصة بترشيد الإنفاق وخفض سقف الدين الخارجي وتشجيع المنتج المحلي والصناعة المصرية. هذه القرارات جاءت عقب إعلان صندوق النقد عن إحراز تقدم في المناقشات مع مصر من أجل استئناف صرف دفعات قرضه البالغ ثلاثة مليارات دولار. نشير هنا إلى أن الحكومة المصرية وضعت في 2022 خطة لم تمنع تفاقم الاقتصاد، وتتلخص تلك الخطة في عدد من التعهدات المكررة منذ العام 2016، مثل رفع نسبة مشاركة القطاع الخاص إلى 65% من إجمالي الاستثمارات خلال ثلاث سنوات، وإتاحة أصول مملوكة للدولة بقيمة 40 مليار دولار للشراكة مع القطاع الخاص المصري أو الأجنبي لمدة 4 سنوات، وطرح 10 شركات تابعة للقطاع العام في البورصة منها شركتان تابعتان للقوات المسلحة، ودمج أكبر 7 موانئ مصرية تحت مظلة شركة واحدة وأكبر الفنادق المميزة كذلك لطرح نسب منها في البورصة. في يناير أيضاً قالت القاهرة إنها أعدت وثيقة تشمل التوجهات الاستراتيجية المقترحة للاقتصاد المصري خلال السنوات المقبلة تتضمن 8 توجهات استراتيجية ترسم وتحدد أولويات التحرك على صعيد السياسات بالنسبة للاقتصاد المصري حتى عام 2030، وتستهدف رفع مقدرات الإنتاج المحلي وزيادة مستويات مرونة الاقتصاد في مواجهة الأزمات. ويرى اقتصاديون مصريون أن حل الأزمة الاقتصادية يتطلب إصلاحاً هيكلياً للاقتصاد برمَّته ومَدَّ آجال الديون التي تقترب من 165 مليار دولار والتي تضغط بشدة على الاقتصاد المصري، وتورد تقارير اقتصادية أن هناك حاجة إلى إنشاء صندوق مستقل تذهب إليه إيرادات الدولة الدولارية ويكون باستطاعته إصدار سندات طويلة الأجل لتخفيف الضغط الحالي، مع إتاحة القدرة للبنك المركزي المصري على التحكم في تعويم سعر الصرف وإدارته. وتعليقاً على قرارات الحكومة، يصف رئيس منتدى التنمية والقيمة المضافة، الاقتصادي أحمد خزيم، هذه القرارات بأنها «خطوة المضطر»، حيث يراها «لا تملك أي مصادر سوى الجباية في ظل تراجع مواردها الدولارية من السياحة وتحويلات المصريين بالخارج والتهديدات الجيوسياسية الجديدة، وارتفاع معدلات التضخم العالمية ورفع أسعار الفائدة، كلها عوامل أقوى تحتاج إلى أرضية اقتصادية صلبة». التوقعات المستقبلية يتفق خبراء اقتصاد مصريون في أن الاستمرار في نفس السياسات الحكومية المنتهجة سيؤدي إلى استمرار ارتفاع الدولار مع عدم وجود سياسات واضحة لوقف تدهور الجنيه، مما سيفضي إلى زيادة فاتورة الاستيراد والدين، ويؤثر سلباً على فرص الاستثمار المحلي والأجنبي، واستغناء السوق المحلية عن بعض مكونات الإنتاج وبالتالي تقلُّص المعروض وارتفاع التضخم. وهناك تحذيرات من أن الأزمة الاقتصادية في حال استمرت على المدى البعيد فقد تؤدي لتوترات اجتماعية تزيد الفجوة بين الطبقات المتباينة أصلاً. وكالة رويترز قالت في يناير إن اقتصاد مصر سينمو بوتيرة أبطأ من أية توقعات سابقة، مع تراجع الجنيه وتقلُّص القوة الشرائية نتيجة ارتفاع التضخم وتداعيات الحرب على غزة. وأظهر تقرير رويترز أن النمو سيرتفع إلى 4.15% في السنة المالية المقبلة 2024-2025، رغم أن التوقعات جاءت أقل من 4.50% التي توقعها المحللون قبل ثلاثة أشهر. ويقول المحلل الاقتصادي المصري مدحت نافع إن الحكومة المصرية تبدو مطمئنة لإجراءاتها الحالية، ما يعني أنه لا يوجد حلول جديدة سوى انتظار التمويلات القادمة من الخارج، والتي في غالبيتها هي تمويلات غير استثمارية بل تمويلات دين، وبالتالي ستتضاعف مشكلة المديونية في الأجل المتوسط، مشيراً إلى أن مصر مطالبة هذا العام بسداد 25% من دينها الخارجي، مما يجعل من السوق السوداء نشطة، لأن الحكومة والبنك المركزي لديهما نهم لجمع الدولار من الأسواق. هذا وخفض صندوق النقد توقعاته لنمو الاقتصاد المصري في السنة المالية الجارية 2023-2024 بواقع 0.6 نقطة مئوية مقارنة مع توقعات سابقة إلى 3%، وذلك بعد أن سجلت نمواً نسبته 3.8% في السنة المالية 2022-2023. وحذرت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتماني من أن التداعيات الأوسع للحرب على غزة تزيد من المخاطر التي تواجه الدول المجاورة وخصوصاً مصر، واعتبرت أن توترات البحر الأحمر تسلّط الضوء على إمكانية تطور تداعيات الصراع بطرق يصعب التنبؤ بها. وتزداد تحديات التمويل الخارجي لمصر وسط هذه الحرب، وفقاً لـ«فيتش»، كما قد تهبط عائدات السياحة في العام المالي الجاري 12.7 مليار دولار، مقابل 13.6 مليار دولار في العام المالي الماضي، على أن تستقر عائدات قناة السويس تقريباً عند 9 مليارات دولار في العام المالي الجاري مقابل 8.8 مليار دولار في العام المالي الماضي. لكن إذا استمر التعطل الجزئي لقناة السويس والحرب على غزة طوال النصف الأول من 2024، فإن إيرادات السياحة قد تنخفض في العام المالي الجاري إلى 11 مليار دولار، وقناة السويس 7.5 مليار دولار، مما يؤدي إلى اتساع عجز الحساب الجاري إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي. من جهتها قالت وكالة التصنيف الائتماني «إس آند بي غلوبال» إن انخفاض حركة السفن عبر قناة السويس فاقم من نقص العملة الأجنبية في مصر، ومع محدودية توفر العملات الأجنبية قامت عدة بنوك بتخفيض حدود بطاقات الائتمان بالعملة الأجنبية، ورغم ذلك توقع التقرير أن تستمر أوضاع السيولة الأجنبية لدى البنوك المصرية في التدهور. ومن المتوقع أن تقوم القاهرة بتخفيض القيمة الرسمية للجنيه المصري، من نحو 31 جنيهاً مقابل الدولار، إلى مستوى أكثر انسجاماً مع سعر السوق السوداء، كما رجَّحت الوكالة أن الظروف النقدية الأكثر صرامةً -والتي يُستبعَد أن تخفَّفَ عقب تخفيض قيمة العملة- ستؤدي إلى زيادة حادة في خدمة الدين الحكومي بالعملة المحلية خلال الأشهر القليلة الماضية.