لم يتمكن أصيل ذو الخمس والعشرين سنة، من مجاراة الحياة الاقتصادية الصعبة في البلاد، إذ لم يجد ابن محافظة إب بعد تخرجه من جامعة صنعاء وظيفة تعيله وأسرته المكوَّنة من ثمانية أشخاص. كان للظروف وقعُها الصعب على حياة الأسرة كغيرها من الأسر اليمنية التي تكافح من أجل البقاء، بعد فقدانها أهم مقومات الحياة الاقتصادية والمهنية: الراتب. ومن هنا، كان على أصيل المقيم في صنعاء، أن يرزح أخيراً على مشروعه الأصغر والمتمثل في عربة متنقلة لبيع البطاطا المغلية والبيض المسلوق، ليعيل أسرته. «أنا واحد من آلاف، وتخرجت من كلية التجارة، لكنني لم أجد فرصة عمل حتى الآن لاستثمار الشهادة، ولم أجد أيضاً عملاً أعمله بدون الشهادة، فاخترت أن أفتح لي مصدر رزق خاص»، يقول أصيل. وأصبح لزاماً على الكثير من اليمنيين البحث عن مصادر الدخل لتوفير متطلبات العيش، إذ لم يعودوا يرون أن الظروف الاقتصادية والمعيشية والصحية صعبة فحسب، بل ينظرون إلى المستقبل كمجهول قاتم، حسب المقابلات التي أجراها «بقش»، وذلك ما يدفع إلى إيجاد، إن لم يكن ابتكار، حلول بديلة لتغطية الاحتياجات ومواكبة الظروف التي لم تفرّق بين مختلف أصحاب المهن والوظائف في اليمن. المشاريع الصغيرة والأصغر كانت ولا تزال أبرز وسائل اليمنيين للكسب والعيش، بل إن هناك من يعتبرها «المنفذ الوحيد» الذي من خلاله يعتاش اليمنيون، ويُسهم قطاع المشاريع الصغيرة والأصغر بنحو 70% من إجمالي الناتج المحلي، ويعمل فيه أكثر من 50% من العمالة، حسب بيانات صادرة عن صنعاء. لكن هذه المشاريع بشكل عام تكبدت خلال الحرب خسائر وأضراراً طالت الأصول الإنتاجية والبنية التحتية، بل ووصلت إلى قاعدة المستهلكين التي شهدت تراجُعاً وقيوداً مالية ووصولاً محدوداً إلى الخدمات الأساسية، مما أثر بشدة على الاقتصاد المحلي فيما يتعلق بإدرار الدخل وخلق فرص عمل والحدّ من الفقر واستمرار البضائع والخدمات المحلية. ونشير بدايةً إلى أن المشاريع الصغيرة -في قانون وزارة الصناعة والتجارة اليمنية- تُعرف بأنها كل شركة أو منشأة فردية تمارس نشاطاً اقتصادياً إنتاجياً أو تجارياً أو خدمياً ورأسمالها المدفوع أكثر من واحد مليون ريال وأقل من 20 مليوناً، وعدد العاملين فيها من 4 إلى 9 عمال، أما المنشأة الأصغر (الصغيرة جداً) فكل شركة أو منشأة فردية تمارس نشاطاً اقتصادياً إنتاجياً أو تجارياً أو خدمياً ورأسمالها المدفوع أقل من مليون ريال وعدد العاملين فيها ثلاثة عمال فأقل. في هذا التقرير نسلط الضوء على جزء من واقع المشاريع الصغيرة والأصغر في يومها العالمي، 27 يونيو، كتذكير دولي بالدور الذي تلعبه هذه المشاريع في الاقتصاد العالمي وفي مكافحة الفقر. مسح خاص: السوق والتجارة يكسبان اهتمام الشباب يختار اليمنيون واليمنيات، من الشباب والأسر المنتجة، مجالات عمل مختلفة، بعضها من داخل المنزل (المشاريع المنزلية)، لكن الأغلب يعملون في السوق مباشرة عبر المتاجر والمنشآت الصغيرة، بينما يعمل عدد غير قليل على مشاريع عبر الإنترنت حصراً. ويعتمد المعظم على الترويج والتسويق الإلكتروني لمنتجاتهم ومشاريعهم عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وغيره من وسائل التواصل، ويساهم عدد من الناشطين في إنشاء مجموعات عامة لترويج المنتجات والمشاريع والأفكار وإيصال السلع إلى أكبر شريحة من المهتمين، وفي ضوء دراستنا اتضح أنَّ مشاريع عديدة لقيت حظاً وافراً من الرواج، وتحوَّلت من حجمها البدائي والصغير إلى وضعٍ أكبر وأكثر ربحاً وشهرة. حسب مسح أجراه مرصد «بقش» غطَّى مختلف المحافظات، فضَّل 66.7% من الأفراد الذين شملهم المسح العملَ على مشاريع في السوق عبر المتاجر أو المنشآت الصغيرة أو العمل الفردي المتنقل على أرض الواقع، بينما فضَّل 26.3% منهم المشاريع عبر الإنترنت، فيما كانت المشاريع المنزلية الأقل تفضيلاً بنسبة 7%. كما فضَّلت الغالبية العملَ على فئة المشاريع التجارية بنسبة 45.6%، واختار 30.7% منهم المشاريع الخدمية، بينما قال 23.7% من الأفراد إنهم يميلون إلى المشاريع الإنتاجية التي تشمل المشاريع الصناعية والزراعية وغيرها. وقال 86.8% من الأشخاص إنهم خطَّطوا لمشاريع خاصة بهم من قبل، لكن 60.6% منهم لم يتمكنوا من تنفيذ مشاريعهم بسبب الصعوبات التي سنتناولها في هذا التقرير، إذ بلغت نسبة العوائق والعراقيل أمام تنفيذ المشاريع 78.5%. التمويل أولى العقبات يبدو أن مشكلة التمويل، سواء أثناء إنشاء المشروع أو تطويره ومساعدته على تخطي أزماته المحتملة، هي المشكلة الرئيسة التي تواجه المشاريع في اليمن، يُضاف إليها ضعف البنية الفوقية التي تدعم بقاء وتطور المشاريع وتعمل على حل العقبات التي تواجهها. ووفقاً للمسح الذي أجراه المرصد، قال 63.2% من الأشخاص إن المشكلة الأساسية التي تواجه المشاريع هي في العموم مشكلة رسمية حكومية، ومشكلة مالية، ومشكلة في التخطيط أيضاً، لكن 21.9% حدَّدوا أنَّ المشكلة هي «مالية» بالدرجة الأولى. ورأى 11.4% أن المشكلة رسمية حكومية، فيما اعتقد 3.5% من الأشخاص أن المشكلة في التخطيط للمشروع فقط. ويتضح من وجهة النظر الغالبة أنَّ هناك اتفاقاً على أن مسألة التمويل والإمكانات المالية هي حجر العثرة التي تقف أمام المشاريع سواءً أثناء التخطيط من أجل التنفيذ، أو بعد التنفيذ من أجل استمرارية المشروع. وسبق وتطرَّقت «الأمم المتحدة» إلى حاجة المشاريع الصغيرة والأصغر في اليمن لدعم المؤسسات المتخصصة في التمويل الأصغر، وقالت المنظمة إن قطاع هذه المشاريع في اليمن كاد ينهار بالكامل -خلال الحرب- لو لم تقم عدة مؤسسات للتمويل الأصغر بدعم عدد قليل من المشاريع. لكن مؤسسات وهيئات تمويل المشاريع الصغيرة والأصغر تأخذ فوائد كبيرة شهرياً، فضلاً عن تعقيد الضمانات للبدء بالمشاريع، وفق شكاوى لأصحاب مشاريع تحدَّثوا لـ«بقش». وتترافق مشكلة التمويل مع كافة الصعوبات المتعلقة بالوضع الاقتصادي العام وتوفير العمالة المناسبة والبنية التحتية، وكلها عوائق مرتبطة بالحكومات بشكل مباشر، وفق دراسة نشرتها جامعة تعز في العام 2020، ويشير فيها الباحث عبدالرب علي الصياد، إلى عقبات أخرى متمثلة في التخطيط والتسويق والخبرة والتخوف من ضياع رأس المال، وضعف الإدارة، كما توجد معوقات متعلقة بالمُلاك أصحاب رأس المال أنفسهم والتي يمكن حلها عن طريق تدخُّل المنظمات والهيئات الممثلة للدولة والمتخصصة في دعم المشاريع الصغيرة. ويواجه واقع المشاريع الصغيرة والأصغر مصاعب بسبب عدم وضوح الآفاق المستقبلية وارتفاع التكاليف والمنافسة وعدم التشجيع الرسمي، إضافةً إلى انعدام الخدمات الأساسية وارتفاع قيمتها وتدهور قيمة العملة المحلية، ما يعني أن هذه المشاريع -بمختلف أنواعها- تتأثر بضعف القوة الشرائية للأفراد. ورغم هذه العقبات، تُظهر نتائج مسح سابق أجرته «شبكة اليمن للتمويل الأصغر» في 10 محافظات يمنية، أن كثيراً من الأشخاص حققوا زيادة في الدخل من مشاريعهم، وأن 81% من عملاء التمويل الأصغر يوظفون ثلاثة عُمال، كما حافظ أكثر من 87% من المستفيدين على مشاريعهم واستمروا في العمل عليها رغم الظروف القاسية والتحديات التي تواجه المشاريع الصغيرة. وبلغت نسبة المنشآت الصغيرة والأصغر المستفيدة في المجال التجاري 34%، و23% في قطاع الخدمات، و21% في قطاع الثروة الحيوانية، و18% في قطاع الحرف اليدوية، و4% في الزراعة، حسب أرقام شبكة التمويل. تعريف المشاريع مشكلة! هناك مشاكل تنظيمية تمس قطاع المشاريع الصغيرة والأصغر، أبرزها عدم وجود تنسيق بين الجهات المعنية بهذا القطاع، وكذلك مشكلة تحديد وتعريف المشاريع الصغيرة والأصغر. فوفقاً للهيئة العامة لتنمية المشاريع الصغيرة والأصغر بصنعاء، ثمة تضارب في المفهوم، إذ يوجد بمصلحة الضرائب تعريف للمشاريع الصغيرة مغاير لتعميم وزارة الصناعة والتجارة حول ماهية المشاريع، مما أدى إلى حدوث تضارب وإرباك في مفهوم هذا القطاع، وهو ما لن يتم حله إلا من خلال قانون يوحّد تعريف المشاريع الصغيرة والأصغر في مختلف الجهات الحكومية والمدنية. وتشير هذه الهيئة إلى أن وضع معايير معينة لجميع المشاريع الصغيرة والأصغر -مثل عدد العمال ورأس المال- يظلم فئةً عن غيرها، بسبب اختلاف المعايير فيما بين فئات المشاريع. وسبق وذكرنا أن قانوناً رسمياً من وزارة الصناعة والتجارة يعرّف المشاريع الصغيرة بأنها كل شركة أو منشأة فردية تمارس نشاطاً اقتصادياً إنتاجياً أو تجارياً أو خدمياً ورأسمالها المدفوع أكثر من واحد مليون ريال وأقل من 20 مليوناً، بينما تُعرَف المنشأة الأصغر بأنها الشركة أو المنشأة الفردية التي تمارس نشاطاً اقتصادياً برأسمال مدفوع يقل عن مليون ريال. وذلك ما ترد عليه الهيئة التابعة لـ«حكومة صنعاء» بأنه يحتاج إلى إعادة نظر، حيث تعتقد أن من المفترض أن يكون لكل فئة من فئات المشاريع -الإنتاجية والخدمية والتجارية- تعريفاً مستقلاً على حدة، بناءً على معايير موحدة، حيث يختلف عدد العمال في المشروع الإنتاجي، ويختلف عنه في الخدمي وكذلك في التجاري. جبايات وتعقيدات حكومية يشكو كثير من أصحاب المشاريع من مشاكل الإجراءات الحكومية وتكاليف إصدار الوثائق الرسمية، وكثرة الجهات التي يستوجب أخذ التصريح منها، لكن هناك 90 إلى 95% من أصحاب المشاريع الصغيرة غير مسجلين فعلياً لأسباب مرتبطة بتطويل الإجراءات. حسب المعلومات الرسمية التي اطلع عليها «بقش»، هناك أكثر من 18 جهة حكومية تقوم بتسجيل المشاريع الصغيرة والأصغر، وذلك ما يبرر عزوف أصحاب المشاريع الصغيرة والأصغر عن تسجيل مشاريعهم، إذ يمكن أن يمر صاحب المشروع بست جهات حكومية بغرض تسجيل مشروع واحد، وهو ما يعقّد الإجراءات الروتينية، ناهيك عن انعدام الثقة بين أصحاب المشاريع وبين القطاع الحكومي. كما تعاني المشاريع الصغيرة والأصغر، عند تشغيلها، من نزولات ميدانية لموظفين وأشخاص تابعين لجهات رسمية مختلفة، يقومون بمطالبة أصحاب المشاريع بمبالغ مفروضة كجبايات تحت مسميات مختلفة، مع عدم وجود آلية قانونية حكومية واضحة يبني عليها الفرد -صاحب المشروع- موازنته وتكاليفه التشغيلية، كما يطرأ عنصر «الرشاوى» على هذا المجال، وذلك كله يُضاف إلى متطلبات «الضمانات» المعقّدة المفروضة على أصحاب المشاريع. ويواجه أصحاب المشاريع مشكلات جمركية تضيف أعباء مالية على التنفيذ، فالمشاريع الإنتاجية، على سبيل المثال، تتطلب استيراد الآلات، لكن ثمة صعوبات في الاستيراد نتيجة التعقيدات الجمركية الحكومية، مما يزيد تكاليف الشراء الباهظة بالفعل. وعلّق على الأمر هشام غانم، محلل اقتصادي، بقوله إنَّ فتح المشاريع والاستثمار في اليمن يواجه أكبر درجة من المخاطر بالنسبة للمستثمرين ورجال الأعمال والتجار نظراً للإجراءات الرسمية وغير الرسمية من الجانب الحكومي، والمتطلبات التي تعمل على تعقيد سير العمل المنفذ من الجهات الحكومية، فضلاً عن ارتفاع تكاليف إنشاء المشروع. وأشار غانم لـ«بقش» إلى أنَّ ارتفاع التكاليف المعيشية وقلة الدخل أو الربح المُدر من المشاريع الصغيرة والأصغر أثَّرت سلباً على أصحاب المشاريع والعاملين فيها والمستفيدين منها، ما يُعد مؤشراً خطيراً على حركة التجارية والصناعية في البلاد. في السياق ذاته، قال أحد أصحاب المشاريع تحفَّظ عن ذكر اسمه، إنه سبق وافتتح مشروعاً في مجال الدواجن، من خلال إنشائه مزرعة صغيرة لتربية الدواجن، إلا أن المشروع انتهى بخسائر كبيرة أنهت كل أمل للاستمرار، حد تعبيره. وأضاف أنه تحمَّل ديوناً لشركات الأعلاف والأدوية البيطرية بسبب زيادة التكاليف ووفرة الدجاج الخارجي المثلَّج الذي ضرب السوق، محمّلاً الجهات الحكومية مسؤولية عدم دعم أصحاب المشاريع لتنميتها، بل ومحاربتها بقصد أو دون قصد، حسب قوله. نماذج يمنية شابة لدى الكثير من الشباب والشابات الرغبة في دخول المجال التجاري والخدمي عبر متاجر ومنشآت صغيرة في قلب السوق، وتشهد الأسواق مشاريع عديدة معنية بالدعايات والإعلان والألبسة والمأكولات وشبكات الإنترنت والجوالات وغيرها، وحتى تلك المشاريع الأصغر القائمة على «العربات المتنقلة». كما انتشرت مشاريع تجارية خاصة بالنساء معنية بالمناسبات والحلويات والأطعمة الخفيفة والألبسة والحقائب وأدوات المنزل وغيرها، وبنفس الكيفية يتم التسويق لهذه المشاريع عبر الإنترنت. أكرم ناجي (28 سنة)، قام بفتح مكتب صغير في صنعاء مسجَّل تجارياً لخدمات النقل والتوريدات البرية بين المحافظات اليمنية، عبر قاطرات النقل الضخمة، وبتمويل ذاتي، لكنه واجه الكثير من الصعوبات المرتبطة بالسوق. يقول أكرم لـ«بقش»: «المشكلة هي أن السوق يهيمن عليه تجار كبار في هذا المجال، ولا يدعون لأصحاب المشاريع التي بدأت بشق طريقها مجالاً للتوسع أو حتى للعمل بشكل جيد، وبمعنى أصح: يوجد هوامير كبار يأكلون السوق كله». ويضيف: «لم أجد دعماً أو شريكاً كبيراً يعين هذا المشروع على الاستمرار بالشكل المطلوب، وكان ينقصني فقط شريك تجاري كبير يؤمن بأن مشروعي قادر على المنافسة على نطاق واسع». وفي مدينة عدن يؤكد عدد من أصحاب العربات المتنقلة الخاصة ببيع الحلويات والأكلات الخفيفة، أنَّهم يعانون من ملاحقة السلطات المحلية لهم من أجل إزالة الشوارع ما لم فسيتم مصادرة العربات التي يتعيشون منها وسط الغلاء المعيشي غير المسبوق، مطالبين بدعمهم وتصحيح أوضاعهم كفئة منتجة بدلاً اتخاذ الإجراءات ضدهم. من جانب آخر، تنتشر المشاريع الأصغر من المنازل كوسيلة لدى الأسر المنتجة لإدرار أرباح مادية تساعدهم على مواجهة الظروف المعيشية الصعبة، وهي مشاريع تُعرف بأنها منخفضة التكاليف، وتستحوذ على نسبة لا يُستهان بها من السوق المحلي. وتتنوع بحسب اهتمامات وإمكانيات الأسر المنتجة ومقياس الطلب على السلعة (المنتج)، ما بين الأعمال اليدوية والخياطة وتعديل وتطريز الملابس، صناعة الحلويات والمعجنات والمأكولات، صناعة وإعداد المشروبات، البهارات، الأجبان والألبان، الصابون، البخور، الإكسسوارات، وغيرها الكثير من المجالات التي أصبح عليها إقبال في الأسواق والمعامل الصغيرة، وكذلك في سوق الإنترنت، وفي بعض الحالات في أسواق خارج الحدود اليمنية. تقول سوسن العتمي (27 سنة)، إن مشروعها المنزلي ساهم في تحسين الظروف المعيشية لكن بشكل بسيط للغاية، إذ لا يزال الدخل محدوداً لكنه في تحسُّن تدريجياً. بدأت سوسن في مشروع بيع البن اليمني وتجهيزه من المنزل برأسمال بسيط وبتمويل ذاتي. تقول عن آلية عمل مشروعها إنها تختار أنواعاً منتقاة من «حبوب البن الفاخرة» وتقوم بشراء أكياس حافظة لا يتجاوز حجمها 200 جرام لتعبئة منتجها الخاص تحت علامة غير مسجَّلة هي (CMC)، وتطمح سوسن إلى توسيع مشروعها الأصغر وتوسيع أحجام المنتج حسب طلبات الزبائن. من المنزل أيضاً تقوم خلود عبدالملك (33 سنة)، بممارسة موهبتها في صناعة المعجنات والحلويات، في مشروعٍ متوسط الربح أسمته «حلويات البراءة»، لكنها لم تتمكن من توفير الأجهزة المطلوبة للإنتاج، وتواجه صعوبة في توفير المواد الجيدة الخاصة بهذا العمل نظراً لارتفاع أسعارها، لكنها تعمل على توفيرها وإنتاج منتجات ذات جودة لكن دون رفع سعر منتجاتها من أجل الحفاظ على الزبائن الذين يعانون في الأساس من ظروف صعبة. وتقول خلود إنها لم تتمكن حتى الآن من فتح محل في السوق بسبب صعوبة توفير الأثاث اللازم له وارتفاع الإيجار، وعندما لم تجد أي شكل من أشكال الدعم اضطرت إلى مواصلة مشروعها من المنزل، مشيرةً إلى أن عدم استقرار أسعار الغاز والكهرباء تؤثر على هذا النوع من المشاريع. ويبدو أنَّ الإنترنت له نصيب الأسد من هذه المشاريع، فهو بالإضافة لكونه وسيلة هامة للتسويق والترويج، أصبح محوراً رئيسياً لافتتاح المشاريع، حيث بات للإنترنت دور في التخطيط لمشاريع كان أبرزها، مؤخراً، أعمال فردية أو تطبيقات محلية لتوصيل الطلبات إلى المنازل، واستيراد السلع من خارج اليمن، وفتح منصات خاصة بالتعليم والتدريب والتأهيل عن بُعد، وغيرها الكثير من المشاريع القائمة على الإنترنت. تتحدث فاطمة عبدالرحمن (22 سنة) عن تجربتها في مشروعها الـ«أونلاين» لتطريز الألبسة والحقائب حسب الطلب. تقول إنها طلبت تمويلاً أصغر من بنك الكريمي وغيره من مؤسسات التمويل، لكن طُلب منها تقديم عدة ضمانات أبرزها «الذهب»، وهو ما حال دون حصولها على التمويل لعدم توفره لديها. وهناك صعوبات تواجه مشروع فاطمة أبرزها آلية النقل، فهي تقوم بـ«استيراد البضاعة من خارج اليمن وذلك مكلف في السعر، وأحياناً يصل الكرتون تالفاً جزئياً أو كلياً بسبب فحص الجمارك»، وتضيف: «هناك أيضاً صعوبة في توفير الأيدي العاملة». وتتفق معها شمس الشهاري العاملة في مجال تصميم الأزياء وبيعها عبر الإنترنت، إذ تشكو هي الأخرى من صعوبات إدخال المواد والأقمشة إلى اليمن بسبب ارتفاع أسعار الجمارك، بالإضافة إلى تأثيرات تغير سعر صرف الدولار على تكاليف المواد وتسعير المنتج. نظرة على الجدوى الاقتصادية أظهر مسح المرصد أنَّ 98% ممن شملهم المسح يرون أنَّ المشاريع تساهم في تحسين الوضع المعيشي بالفعل مهما كانت صغيرة، ويعتقد 96.2% أن للمشاريع الصغيرة والأصغر أثراً إيجابياً على الاقتصاد اليمني ككل، حيث تعين الأفراد المحليين في المدن والأرياف وتُعتبر قابلة للتطور والتوسع وإثبات الجدوى الاقتصادية. ويرى عدد ممن تحدثوا للمرصد، أنَّ المشاريع الصغيرة والأصغر تساهم بنتائج إيجابية للاقتصاد المحلي تتمثل في رفع الدخل والحد من معدلات البطالة، وزيادة الأشخاص المنتجين، وإعالة كثير من الأسر الفقيرة واكتفائها ذاتياً، رغم ضعف الإمكانات وانعدام الموارد، مع تأكيدهم على عدم دعم الحكومات للمشاريع وعدم قدرتها على الضبط الكلي لهذا القطاع. وبطبيعة الحال يُنظر إلى المشاريع الصغيرة كمكون أساسي في هيكل الإنتاج والاقتصاد في دول العالم، إذ تحتوي على القطاع الأكبر من الأيدي العاملة، وتغطّي مساحة كبيرة من طلبات السوق المحلي، وتوازن في عملية التنمية وبين البيئات المختلفة في المجتمع الواحد، وتصنع فرص العمل، وفي عديد من الدول لديها فرصة للنمو والاستمرارية أكثر من الشركات الكبيرة ذات المرونة الأقل. كما تحتاج إلى رأس مال منخفض، وتمتاز بالقدرة على توظيف العمالة نصف الماهرة وغير الماهرة، وتنخفض فيها نسبة المخاطرة مقارنةً بالأعمال الكبرى، فضلاً عن كونها مصدراً مولّداً للدخل. لذا فإن الدول بحاجة إلى المشاريع الصغيرة لتشارك في نمو اقتصادها عن طريق القطاع الخدمي وتساعد كذلك في القطاع الصناعي، ووفقاً لعدة تقارير فإن نسبة ما تقدمه المشاريع الصغيرة على مستوى الناتج المحلي العالمي تبلغ 46%، وهي نسبة تحيل إلى مدى تأثير هذه المشاريع. ويبرز «التمويل الأصغر» كوسيلة لتوفير رأس المال للفقراء، حسب تعبير «صندوق النقد الدولي»، وهو ما يساعد على محاربة الفقر على مستوى الأفراد ويلعب دوراً على المستوى المؤسساتي للبلد. وفي اليمن أغرى مفهوم «التمويل الأصغر» الحكومة اليمنية منذ عام 1997 ليلعب دوراً -بدعم الدول المانحة- في تخفيف الفقر والحد من البطالة من خلال توسيع نطاق الخدمات المالية المقدمة إلى أصحاب الأعمال والمشاريع الصغيرة والأصغر، وبالتالي زيادة حصتهم في الاقتصاد المحلي، إلا أن صعوبات واجهت قطاع التمويل الأصغر منذ نشوئه أعاقت نموَّه وقدرته على الوصول إلى السكان وعلى إحداث تأثير اقتصادي شامل. ويُذكر أن العام 2007 شهد إنشاء أول بنك متخصص في التمويل الأصغر في اليمن هو بنك الأمل للتمويل الأصغر، وتلاه مصرف الكريمي للتمويل الأصغر الإسلامي، وقام البنك المركزي اليمني مع الصندوق الاجتماعي للتنمية (الذي تأسس حكومياً عام 1997) بوضع قانون لتنظيم أنشطة التمويل الأصغر داخل القطاع المصرفي أقرَّه البرلمان في 2009، ويتوفر في البلاد عدد من بنوك ومؤسسات وشركات وبرامج التمويل الأصغر تعرَّضت خلال الحرب لمشكلات هددت وجودها مع استمرار تخلف المقترضين عن السداد، إلى أن أُطلقت في العام 2017 مبادرة بتمويل من «البنك الدولي» لسداد القروض المستحقة وأي فوائد مستحقة لمؤسسات التمويل الأصغر نيابة عن المقترضين، وتقديم المنح لمساعدة المستفيدين على استئناف نشاطهم التجاري أو بدء مشاريع جديدة. الموقف الحكومي تؤكد حكومة عدن أن من الضروري -عبر تقديم المانحين للتمويلات- تبنّي المشاريع الصغيرة المدرّة للدخل التي توقفت، وتوفير فُرَص عمل جديدة تسهم في تخفيف البطالة بين الشباب وخريجي الجامعات، في الوقت الذي يقع أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر، وسط ازدياد ملحوظ في نسبة البطالة تزيد عن 60%، مع تزايد ملحوظ في عمالة الأطفال وكثرة الباعة المتجولين وانتشار ظاهرة التسول، حسب التصريحات الرسمية للحكومة. ويقول مصدر حكومي في عدن، إنَّ البنك المركزي منح هذا العام ستة تراخيص لبنوك التمويل الأصغر التي تختص بتمويل المشاريع الصغيرة، لكن هذا القطاع، حسب تصريحه، ليس فاعلاً بالشكل المطلوب على المستوى الرسمي في مختلف أنحاء البلاد. ويشكو شباب وشابات يتبنون مشاريع صغيرة في عدن من انهيار العملة المحلية بوصفه عدواً كبيراً للمشاريع وسبباً في فشلها، إضافةً إلى أزمة انقطاع الكهرباء في عدن خلال الصيف كواحدة من أكبر صعوبات المشاريع الصغيرة، خصوصاً تلك التي بحاجة إلى التبريد. ويُشار إلى أن الظروف الاقتصادية المتدهورة دفعت عدداً من رائدات الأعمال في عدن إلى تأسيس اتحاد أسمينه «اتحاد مالكات المشاريع الصغيرة»، وحصل على ترخيص من الغرفة التجارية بعدن عام 2016، وذلك لمساعدة رائدات الأعمال اللاتي يزداد عددهن في عدن باستمرار بسبب تأثير الحرب بشدة على النساء وفقدان مصادر الدخل. وفي منتصف 2022، أصبح الاتحاد يضم نحو 1200 رائدة أعمال، بعد أن كان عددهن في حدود 150 فقط عند تأسيسه. أما في صنعاء، فتؤكد السلطات المعنية أن هناك مشكلاتٍ في هذا القطاع أبرزها مشكلة التمويل لكون المتوفر حالياً مؤسسات مقرضة لا يستطيع المقترضون تحمل الأعباء المالية الكبيرة التي تفرضها، إضافةً إلى مشكلة التسويق الذي تندرج تحته عدة مشكلات كجودة المنتج والتغليف وفتح أسواق جديدة ومنافسة المنتج الخارجي. وتؤكد الهيئة العامة لتنمية المشاريع الصغيرة والأصغر أنها لم تتمكن من دعم الشريحة الكبيرة العاملة في هذا المجال بسبب أنها تحت التأسيس وتفتقد للموارد المالية، لكن هناك خطة لإنشاء «تطبيق إلكتروني للخدمات الاستشارية» قالت الهيئة إنه سيكون مفيداً لأصحاب المشاريع عبر تقديم استشارات مجانية. وتأتي شكاوى المواطنين من المشكلات التي يواجهونها مع الجانب الحكومي كالضرائب والرسوم المختلفة رغم أنَّ حكومة صنعاء تقول إنها منحت أصحاب المشاريع الصغيرة والأصغر إعفاءات ضريبية تستهدف المشاريع التي لا تتجاوز مبيعاتها السنوية مبلغ 20 مليون ريال. حلقة مفقودة أخيرة أولئك الذين تمكنوا من تأسيس مشاريعهم الصغيرة، أو الذين لم تسعفهم الفرصة بعدُ لذلك، جميعهم ينتظرون مستقبلاً أفضل من الحاضر الذي يعيشونه بكل ما يحمله من اضطرابات اقتصادية ناجمة عن الحرب. ولأن هذه المشاريع تشكل متنفساً اقتصادياً ومعيشياً هو الأبرز، تبقى التساؤلات حول مآلات المشاريع وآمال أصحابها: هل يتم إحداث نقلة مستقبلية في هذا المجال؟ وهل يجد أصحاب المشاريع سبيلاً لتطويرها وتنميتها وتحسين دخلهم والحصول على الدعم؟ وهل تضع السلطات حلولاً لعراقيلها المفروضة على طموحات الشباب؟