منذ بدء العمليات العسكرية اليمنية في البحر الأحمر رداً على الحرب الإسرائيلية في غزة، كان التأثير على التجارة العالمية فورياً. ومع ذلك، فإن الرد الدولي المضاد الذي تقوده الولايات المتحدة لم يؤد إلا إلى زيادة احتمال تكثيف الصراع والأضرار الاقتصادية. ومع تصاعد التوترات، تحفز المواجهة في البحر الأحمر سلسلة من التصعيد الذي قد يعيد تشكيل المشهد الجيوسياسي في الشرق الأوسط وخارجه، بما في ذلك الجهود المبذولة لإنهاء حرب اليمن المستمرة منذ فترة طويلة بشكل نهائي. بعد أسابيع قليلة من القصف الإسرائيلي لغزة في أكتوبر 2023، بدأت القوات التابعة لحكومة صنعاء «أو من يعرفهم العالم بالحوثيين» بمهاجمة السفن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر وخليج عدن. ومع استمرار تدمير غزة، أصبحت الهجمات متكررة على نحو متزايد، مما أدى إلى تحويل مضيق باب المندب إلى منطقة شديدة الخطورة للشحن التجاري وتصاعد تكاليف إرسال البضائع والتأمين. في البداية، سعت إدارة بايدن إلى تجنب المواجهة في البحر الأحمر لمنع توسع الحرب في غزة عبر المنطقة، ومع ذلك، مع تصعيد الحوثيين، اضطرت واشنطن إلى التدخل من أجل مواجهة تهديدات الهجمات للشحن عند مدخل البحر الأحمر، وهو طريق رئيسي لشحنات الطاقة والسلع المنقولة بحراً. واستجابة للضغوط الاقتصادية، حشدت الولايات المتحدة وبريطانيا كالعادة تحالفاً بحرياً يضم 20 دولة في ديسمبر2023 أطلق عليه اسم «عملية حارس الازدهار» لضمان حرية الملاحة في الممرات المائية حسب زعم التحالف، وبدء شن موجة من الضربات العسكرية ضد مواقع داخل اليمن. وبحسب وزارة الدفاع الأمريكية، كانت الهجمات الأمريكية قادرة على ضرب منصات الصواريخ والطائرات بدون طيار اليمنية، لكن هذه العمليات أثبتت فشلها في ردع ووقف الهجمات في البحر الأحمر. بل على العكس من ذلك، فقد دفعت الحوثيين إلى التصعيد أكثر، فبينما استهدفت القوات اليمنية في البداية السفن المرتبطة بإسرائيل فقط، إلا أنها، بعد الهجمات الأمريكية والبريطانية، حولت أنظارها إلى السفن المرتبطة بجميع الدول المشاركة في القصف على اليمن. وقد أدى ذلك إلى تفاقم الوضع وزيادة الخطر على السفن العاملة في المنطقة. علاوة على ذلك، تعاملت الولايات المتحدة مع هذه القضية باعتبارها منفصلة عن غزة ومنحت إسرائيل مساحة غير محدودة للتصرف، تاركة مصدر الصراع ليتفاقم. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى زيادة الضغط على الحوثيين لمواصلة عملياتهم، مع تحول إحجام الجماعات الأخرى عن التركيز نحو جبهة البحر الأحمر. وهذا يثير احتمالين، أولاً، قد تستمر إدارة بايدن في نهجها الحالي، بالضغط على الحوثيين بضربات انتقامية وتنفيذ العقوبات وفقًا لقرارها بإعادة تصنيف الجماعة ككيان إرهابي، ومع ذلك، فإن المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة لا تؤدي إلا إلى تعزيز الموقف الشعبي للجماعة وتمنحها الشرعية، التي تسعى إليها محلياً وإقليمياً، وقد تدفع الحوثيين إلى تكثيف هجماتهم ضد أهداف غربية لإثارة رد فعل أكثر عدوانية من واشنطن. ومن الممكن أيضًا أن تقوم الولايات المتحدة بتوسيع عملياتها العسكرية تدريجياً، لكن مثل هذا النهج يمكن أن يكون له عواقب سلبية كبيرة، فمن ناحية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى إغلاق ميناء الحديدة في اليمن، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني والاقتصادي بالفعل في البلاد، ومن المرجح أيضًا أن يجبر الحوثيين على الانخراط في حرب شاملة، مما يعيق محادثات السلام الجارية في اليمن مع أطراف النزاع مثل السعودية. ورغم التقارير التي تشير إلى إصرار الرياض على استكمال عملية وقف إطلاق النار في اليمن، إلا أن أحداثاً مثل الوضع في غزة أدت إلى تأخير عملية التوقيع. في الوقت الحالي، وطالما لم تنضم السعودية إلى التحالف الدولي ضد الحوثيين، فإن احتمالات التوصل إلى اتفاق سلام في اليمن تظل قابلة للتطبيق، لكن قرار التصعيد من جانب الولايات المتحدة قد يعرقل ذلك. التداعيات الاقتصادية لأزمة البحر الأحمر تشتد أدت الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر باعتباره شرياناً للتجارة البحرية إلى تضخيم الأثر الاقتصادي للهجمات اليمنية. وبينما كان الهدف في البداية ممارسة الضغط على الاقتصاد الإسرائيلي، فإن التوسع اللاحق في الأهداف بسبب السياسات الأمريكية الخاطئة كان له تداعيات على التجارة البحرية الدولية، مما ينذر بعواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي الأوسع، حيث إن الارتفاع في تكاليف الشحن يهدد بإثارة التضخم المرتفع بالفعل. وبعيداً عن إسرائيل، التي أصيبت تجارتها البحرية عبر ميناء إيلات بالشلل تقريباً، فإن اعتماد أوروبا المتزايد على الخليج لتلبية احتياجاتها من الطاقة في أعقاب حرب أوكرانيا جعلها عرضة لاضطرابات سلسلة التوريد. كما أن الاقتصادات الآسيوية الكبرى، سواء كانت من كبار مستوردي النفط أو مصدري السلع الأساسية، أصبحت تشعر بالضجر. ومع استمرار الهجمات، اضطرت العديد من شركات الشحن الكبرى إلى تعليق عملياتها في البحر الأحمر أو تغيير مسار السفن عبر رأس الرجاء الصالح. وقد بدأت الطرق الأطول والتكاليف المرتفعة التي تنطوي عليها - سواء من حيث الوقود أو العمالة - في تفاقم تكاليف الشحن بالفعل، ووفقا لشركة Freightos، وهي منصة للحجز والدفع، فقد تضاعفت أسعار حاويات الشحن من آسيا إلى البحر الأبيض المتوسط ثلاث مرات. ومن ناحية أخرى، انخفضت حركة المرور اليومية عبر قناة السويس بنسبة 45%، الأمر الذي كان له عواقب وخيمة على الخزانة المصرية المتعثرة. مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) أعرب عن قلقه إزاء الاضطرابات التجارية وحذر من ارتفاع الأسعار الذي يمكن أن تسببه، خاصة في أسواق الطاقة والغذاء، يأتي ذلك في الوقت الذي بدأ فيه الاقتصاد العالمي للتو التعافي من صدمات جائحة فيروس كورونا والحرب في أوكرانيا. بحسب شبكة «بلومبيرغ» فإن الهجمات في البحر الأحمر تسببت بالفعل في تأخير الشحن ورفع أسعار البضائع، مما يؤدي إلى خطر تضخم جديد على الاقتصاد، ذلك إلى جانب أن إعادة توجيه السفن عبر مسار رأس الرجاء الصالح سيعني ارتفاع تكاليف الشحن ووقت التسليم الأطول. ويعد البحر الأحمر أحد أهم الممرات الملاحية في العالم، إذ ينقل نحو 14% من التجارة البحرية العالمية. وقال المحللون في بلومبيرغ إن من بين الاقتصادات الأكثر تضرراً من الاضطرابات التجارية اليونان والأردن وسريلانكا وبلغاريا. وتحمل أكثر من 20% من الحاويات التي تمر عبر قناة السويس البضائع من آسيا إلى الدول الأوروبية ودول البحر الأبيض المتوسط، وفقًا لشركة Project44 للمعلومات اللوجستية، فيما يتعين على السفن المحولة أن تبحر حول أفريقيا للوصول إلى أوروبا، مما يضيف ما لا يقل عن 7 إلى 10 أيام إلى الرحلة، حسب تقديراتهم. وفي حين أن تكلفة إرسال حاوية بطول 40 قدم من شنغهاي إلى روتردام قفزت بنسبة 44% منذ نهاية أكتوبر قبل بدء الهجمات، وبأكثر من 26% إلى جنوى إيطاليا، إلا أنها تظل أقل بكثير من المستويات في عامي 2021 و2022 أثناء كورونا، بحسب البيانات التي جمعتها بلومبيرغ. ذات البيانات أظهرت أن التأثير على التضخم في أوروبا سيكون محدوداً، حيث تتكيف الأسواق وشركات الشحن مع الوضع الجديد. ماذا يقول خبراء التجارة عن اضطرابات الشحن في البحر الأحمر؟ رصد تقرير نشره المنتدى الاقتصادي العالمي واطلع عليه مرصد «بقش» في أواخر فبراير 2024 آراء وتصريحات عدد من أكبر خبراء التجارة الدولية المختصين في الشحن البحري، وبحسب تصريح الرئيس التنفيذي العالمي لاستشارات التجارة والجمارك في شركة ميرسك «لارس كارلسون»، فقد «شهدت قناة السويس/البحر الأحمر، التي تعتبر حيوية لنحو 30% من حركة الحاويات في العالم، اضطرابات دفعت الشركات إلى تغيير مسارها حول رأس الرجاء الصالح، وقد أدى هذا الوضع إلى انكماش فوري في قدرة السوق وارتفاع في أسعار الشحن، مع آثار كبيرة على شبكات التجارة العالمية والاستقرار الاقتصادي». في حين قال «ريكو فان ليوكين» الرئيس التنفيذي للحلول والخدمات في شركة ميرسك أيضاً إنه «في ضوء هذه التحديات، تسعى الشركات إلى مزيد من المرونة والمرونة في سلاسل التوريد الخاصة بها، حيث تستجيب شركة ميرسك لهذه الحاجة من خلال تعديل شبكتها وتوفير حلول بديلة لدعم عملائها خلال هذه الأوقات المضطربة». بدوره تحدث «سيمون إيفينيت»، مؤسس مؤسسة سانت غالن للازدهار من خلال التجارة، قائلاً إن «بيانات شركة أمبري للأمن البحري، أفادت بوقوع 80 حادث - هجمات محتملة على الشحن - في البحر الأحمر وخليج عدن في الفترة ما بين 19 نوفمبر 2023 و9 فبراير 2024، فيما بدأت السفن البحرية الأمريكية والبريطانية في قصف أهداف للحوثيين في 11 يناير 2024»، مضيفاً أنه ومنذ 26 يناير 2024، لم تقع سوى هجمات قليلة جديدة على السفن، لكن رغم ذلك من السابق لأوانه إعلان النصر» حد تعبيره. فحتى الآن لم تتمكن العديد من خطوط شحن الحاويات الغربية من المرور عبر قناة السويس. وبدلاً من ذلك، يتم تحويل السفن حول رأس الرجاء الصالح، مما يضيف أسبوعين إلى الرحلات فضلاً عن النفقات غير الضرورية. حتى الآن، الضرر الذي لحق بالاقتصاد العالمي متواضع، فخطوط الشحن الصينية لم تترك طريق قناة السويس، وعلى الرغم من ارتفاع أسعار الشحن، إلا أنها لا تزال أقل بكثير من ذروة عصر كورونا، ولم يتحرك مؤشر بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك لضغوط سلسلة التوريد العالمية إلا بالكاد. وعلى الرغم من أهميته، فإن 11% فقط من التجارة العالمية تتدفق عبر البحر الأحمر، وهذا وحده لا يكفي لتعطيل الاقتصاد العالمي. الأمر الأكثر صعوبة في التقييم هو ما إذا كان المزيد من الاضطرابات في طرق التجارة سيؤدي إلى تقويض ثقة صناع السياسات والشركات في التوريد لمسافات طويلة، ويمكن توقع المزيد من الدفع نحو المصادر المحلية والإقليمية. «ماريون يانسن»، مديرة إدارة التجارة والزراعة بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية قالت إن الشحن التجاري كان تاريخياً نشاطاً خطراً، وأنه «بعد بضعة عقود من السلام والاستقرار النسبيين في المياه الدولية، عدنا إلى الوضع الذي أصبحت فيه الطرق الرئيسية لحركة الملاحة البحرية الدولية رهينة للهجمات العنيفة». فبعد تأثر عبور السفن للبحر الأسود بشدة بسبب الحرب الأوكرانية لفترة من الوقت، الآن حان دور الشحن في البحر الأحمر ليعاني من التوترات الجيوسياسية. وأضافت «يانسن» أنه ونظراً لأن الشحن في البحر الأحمر مسؤول عن 12% إلى 15% من التجارة العالمية و20% من شحن الحاويات العالمي، فمن المرجح أن تصبح التداعيات أكثر خطورة مع استمرار حالة عدم اليقين. حيث تشير تقديرات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن مضاعفة تكاليف الشحن العالمية، إذا استمرت، من شأنها أن تضيف 0.4 نقطة مئوية إلى تضخم أسعار المستهلك في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بعد حوالي عام. كل هذه الاضطرابات تترجم حتماً إلى تكاليف أعلى. وسواءً كان لها في نهاية المطاف تأثير كبير على التضخم العالمي فسوف يعتمد إلى حد كبير على مدة وشدة الهجمات، وتشير بعض التقديرات إلى أنه إذا استمرت هذه الاضطرابات لمدة عام، فقد تؤدي إلى زيادة بنسبة 2% في تضخم السلع.