فاتورة حرب ترامب التجارية تتجاوز 34 مليار دولار على الشركات العالمية والضبابية تخيم على الاقتصاد

الاقتصاد العالمي | بقش
كشفت أحدث التحليلات عن التكاليف الباهظة للحرب التجارية التي أشعل فتيلها الرئيس دونالد ترامب مع انطلاق ولايته الثانية، حيث تكبدت الشركات العالمية خسائر في المبيعات وارتفاعاً في التكاليف بما يزيد عن 34 مليار دولار حتى الآن.
هذا الرقم، المستخلص من إفصاحات الشركات العملاقة، مرشح للارتفاع بشكل كبير في ظل استمرار حالة عدم اليقين التي فرضتها سياسات التعريفات الجمركية، التي أصابت عملية صنع القرار بالشلل في أروقة بعض أكبر المؤسسات الاقتصادية على مستوى العالم.
فصول جديدة في حرب ترامب التجارية منذ انطلاق ولايته الثانية
منذ بداية ولايته الثانية، صعّد الرئيس ترامب من نهجه الحمائي تحت شعار “أمريكا أولاً”، مطلقاً جولة جديدة وأكثر شراسة من المواجهات التجارية، لم تقتصر هذه الجولة على الصين، الخصم التجاري التقليدي، بل امتدت لتشمل حلفاء تاريخيين في أوروبا وآسيا، وحتى دول الجوار في أمريكا الشمالية.
استند ترامب في تبرير هذه الإجراءات إلى مزاعم حول الممارسات التجارية غير العادلة، وتهديدات للأمن القومي الأمريكي، بالإضافة إلى استخدام التعريفات كورقة ضغط لتحقيق أهداف سياسية أخرى، مثل قضايا الهجرة وتدفق المخدرات.
ووفق متابعات بقش شملت الإجراءات فرض تعريفات جمركية شاملة على فئات واسعة من السلع، وتطبيق “القسم 232” من قانون التوسع التجاري بشكل موسع لفرض رسوم على واردات مثل الصلب والألومنيوم والسيارات وقطع غيارها بدعوى حماية الصناعات الأمريكية الحيوية.
كما لجأت الإدارة بشكل متكرر إلى التهديد بفرض رسوم إضافية أو توسيع نطاقها، مما خلق بيئة من الترقب والتوتر الدائم في الأسواق العالمية، وقد أدى هذا النهج إلى ردود فعل انتقامية فورية من الدول المتضررة، التي فرضت تعريفات مضادة على المنتجات الأمريكية، مما أدى إلى حلقة مفرغة من التصعيد.
آثار مدمرة على الاقتصاد الأمريكي والعالمي
ألقت هذه الحرب التجارية بظلالها القاتمة على الاقتصاد الأمريكي، حيث أدت التعريفات إلى ارتفاع تكاليف المواد الخام والسلع الوسيطة للعديد من الصناعات الأمريكية، مما ضغط على هوامش أرباح الشركات وأجبرها على نقل جزء من هذه التكاليف إلى المستهلكين حسب تتبع بقش لهذا الملف، وبالتالي ارتفاع معدلات التضخم.
ورغم وعود ترامب بإعادة الوظائف الصناعية، عانت قطاعات أخرى، مثل الزراعة والتكنولوجيا الفائقة، من خسائر فادحة جراء الرسوم الانتقامية التي أغلقت أمامها أسواق تصدير رئيسية، كما أدت حالة عدم اليقين إلى تراجع الاستثمارات وتأجيل خطط التوسع لدى العديد من الشركات.
عالمياً، ساهمت سياسات ترامب التجارية في تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي، وتعطيل سلاسل الإمداد المعقدة التي بنيت على مدى عقود، وأجبرت الشركات متعددة الجنسيات على إعادة تقييم استراتيجياتها، والبحث عن مصادر بديلة، أو حتى نقل بعض عملياتها لتجنب الرسوم، مما زاد من التكاليف وأضعف الكفاءة.
كما تعرض النظام التجاري العالمي متعدد الأطراف، الذي تمثله منظمة التجارة العالمية، لضغوط غير مسبوقة، مع تزايد النزعات الحمائية وتراجع الثقة في قواعد التجارة الدولية.
الشركات تدفع الثمن: خسائر بالمليارات وتوقعات قاتمة
يكشف تحليل أجرته وكالة رويترز لبيانات الشركات وإيداعاتها التنظيمية ونصوص مؤتمراتها الصحفية، أن فاتورة التعريفات الجمركية حتى الآن للشركات العالمية ثقيلة للغاية، فالرقم البالغ 34 مليار دولار حسب قراءة بقش هو مجموع تقديرات من 32 شركة في مؤشر ستاندرد آند بورز 500، وثلاث شركات من مؤشر STOXX 600 الأوروبي، و21 شركة في مؤشر نيكاي 225 الياباني.
يؤكد اقتصاديون، مثل “جيفري سونينفيلد” الأستاذ بكلية ييل للإدارة، أن “التكلفة التي تتحملها الشركات ستكون على الأرجح عدة أضعاف ما كشفت عنه حتى الآن”، مضيفاً أن الآثار المضاعفة، كانخفاض إنفاق المستهلكين والشركات وارتفاع توقعات التضخم، يمكن أن تكون أسوأ.
وفي هذا السياق، قامت شركات كبرى مثل “آبل”، و”فورد”، و”بورش”، و”سوني” بسحب أو خفض توقعاتها للأرباح، مشيرة إلى أن الطبيعة المتقلبة وغير المتوقعة لسياسات ترامب التجارية جعلت من المستحيل تقدير التكاليف بدقة.
ومع اقتراب موسم أرباح الشركات من نهايته، وجدت رويترز أن 42 شركة على الأقل خفضت توقعاتها، بينما سحبت 16 شركة أو علقت توجيهاتها المالية، ومن الأمثلة البارزة، رفضت شركة “وول مارت” تقديم توقعات للأرباح الفصلية وأعلنت أنها سترفع الأسعار، مما أثار انتقاداً من ترامب.
كما سحبت “سيارات فولفو” توقعاتها لأرباح العامين المقبلين، وقدمت “يونايتد إيرلاينز” توقعين مختلفين، معللة ذلك باستحالة التنبؤ بالبيئة الكلية هذا العام.
تأثيرات قطاعية وردود فعل متباينة
كانت شركات صناعة السيارات وشركات الطيران ومستوردو السلع الاستهلاكية من بين الأكثر تضرراً، فقد ارتفعت تكاليف المواد الخام وقطع الغيار مثل الألمنيوم والإلكترونيات، وجعلت التعريفات المفروضة على دول متعددة تجميع السيارات أكثر تكلفة، حتى شركة “كيمبرلي كلارك” المصنعة لمناديل كلينكس خفضت توقعات أرباحها السنوية، متوقعة تكبد حوالي 300 مليون دولار كتكاليف إضافية هذا العام وفق مراجعة بقش بسبب ارتفاع تكاليف سلسلة التوريد بفعل التعريفات، وإن كانت قد أعلنت لاحقاً عن استثمار ملياري دولار لتوسيع قدرتها التصنيعية في الولايات المتحدة.
وكذلك أعلنت شركة “دياجيو”، صانعة ويسكي جوني ووكر وتكيلا دون خوليو، عن خطط لخفض التكاليف بقيمة 500 مليون دولار والتخلص من أصول بحلول عام 2028، حيث من المتوقع أن تتسبب التعريفة بنسبة 10% على وارداتها من بريطانيا والاتحاد الأوروبي في خسارة 150 مليون دولار من أرباحها التشغيلية سنوياً.
الإدارة تدافع عن سياساتها وسط ضبابية مستمرة
تجادل إدارة ترامب بأن التعريفات ستخفض العجز التجاري الأمريكي وتدفع الشركات إلى نقل عملياتها إلى البلاد، مما يعيد الوظائف إلى الوطن، وأنها ستجبر دولاً أخرى على التعاون في ملفات كالهجرة والمخدرات.
وأكد المتحدث باسم البيت الأبيض، “كوش ديساي”، أن “الإدارة شددت باستمرار على أن الولايات المتحدة لديها النفوذ لجعل شركائنا التجاريين يتحملون في النهاية تكلفة التعريفات الجمركية”.
ومع ذلك، تظل البيئة التجارية العالمية محفوفة بالمخاطر، وفي تطور لافت، منعت محكمة تجارية أمريكية يوم الأربعاء الماضي دخول بعض تعريفات ترامب حيز التنفيذ، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد.
ورغم توقف مؤقت في الأعمال العدائية التجارية بين الصين والولايات المتحدة وتراجع ترامب عن بعض تهديداته ضد أوروبا، لا يزال من غير الواضح كيف ستبدو الصفقات التجارية النهائية، ويقول الاستراتيجيون وفق اطلاع بقش إن الشركات ستسعى لتعزيز سلاسل التوريد وتنويعها وتقريبها، وإعطاء الأولوية لأسواق جديدة، وكلها إجراءات ستؤدي حتمًا إلى زيادة التكاليف.
في المحصلة، تبدو الحرب التجارية التي يقودها ترامب عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد العالمي والشركات العاملة فيه، مع تكاليف مباشرة وغير مباشرة لا تزال تتكشف، ومستقبل يلفه الغموض أكثر من أي وقت مضى.