تقارير
أخر الأخبار

الاقتراب من إنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ أمريكا.. هل تنتهي الضربات الاقتصادية؟

تقارير | بقش

بعد أكثر من أربعين يوماً من الشلل الكبير الذي أصاب الإدارة والاقتصاد الأمريكي، صوّت مجلس الشيوخ الأمريكي (ذو الأغلبية الجمهورية) بأغلبية 60 صوتاً مقابل 40 لصالح اتفاق مبدئي لإنهاء أطول إغلاق حكومي في تاريخ أمريكا.

هذا الاتفاق جاء بعد ضغوط اقتصادية هائلة وتداعيات اجتماعية متفاقمة، أبرزها توقف رواتب مئات الآلاف من الموظفين الحكوميين في أمريكا، وضرب قطاعات حيوية كالنقل الجوي والخدمات الاجتماعية، واهتزاز الاقتصاد الكلي الأمريكي الذي يخسر وفق متابعات بقش ما لا يقل عن 15 مليار دولار أسبوعياً جرّاء الإغلاق.

وبدأ الإغلاق الحكومي في 01 أكتوبر نتيجة فشل الكونغرس في تمرير ميزانية تمويل شاملة للعام المالي الجديد، وسط خلافات حادة بين الجمهوريين والديمقراطيين بشأن تمديد إعانات التأمين الصحي ضمن برنامج “أوباماكير”، وهو البند الذي رفض الجمهوريون إدراجه في مشروع التمويل.

الديمقراطيون طالبوا بتمديد الإعانات لعام إضافي وإلغاء التخفيضات التي أقرها الجمهوريون سابقاً في برنامج “ميديكيد”، بينما أصر الجمهوريون على تمرير مشروع تمويل مؤقت يخلو من تلك البنود.

تكررت محاولات التوصل إلى تسوية منذ سبتمبر الماضي، لكن الجمود السياسي المستمر جعل الحكومة تدخل في حالة تعطيل طويلة لم تشهدها البلاد منذ إغلاق إدارة ترامب عام 2018 الذي استمر 35 يوماً.

ملامح الاتفاق السياسي

الاتفاق الذي أقره مجلس الشيوخ مساء الأحد يمثل تمويلاً جزئياً للحكومة، يشمل وزارات الزراعة، وشؤون المحاربين القدامى، والكونغرس نفسه، فيما يمتد التمويل لباقي الوكالات حتى 30 يناير 2026.

ويسمح الاتفاق بإعادة الموظفين المفصولين، وصرف رواتبهم المتأخرة، واستئناف المدفوعات الفدرالية للولايات والبلديات.

لكن مصيره لا يزال معلقاً بقرار مجلس النواب، إذ أعلن الديمقراطيون بقيادة “حكيم جيفريز” معارضتهم لأي اتفاق لا يتضمن تمديد إعانات “أوباماكير”. بالمقابل، حصلت مجموعة من الديمقراطيين المعتدلين على وعد من زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ
“جون ثيون” بطرح تصويت لاحق على تمديد الإعانات قبل نهاية العام، ما شكّل مخرجاً مؤقتاً من الأزمة.

الضربة الاقتصادية

وفق تقديرات اقتصادية أولية، تسبب الإغلاق الذي تجاوز 40 يوماً بخسائر مباشرة تقارب 60 مليار دولار، بمعدل 15 مليار دولار أسبوعياً، وهذه الخسائر جاءت نتيجة توقف رواتب الموظفين الفيدراليين، وتعطّل آلاف العقود الحكومية، وتأجيل المشروعات العامة والخاصة التي تعتمد على التمويل الفيدرالي.

كما تراجعت ثقة المستهلكين الأمريكيين إلى أدنى مستوياتها منذ 2020، وفق مؤشرات جامعة ميشيغان التي تتبَّعها مرصد بقش، بسبب القلق من عدم انتظام الدخل لدى مئات الآلاف من الأسر العاملة في القطاع العام، وتراجع الإنفاق الشخصي، ما انعكس سلباً على مبيعات التجزئة والمطاعم والخدمات.

ومن أبرز الجوانب التي تجسّدت فيها فداحة الإغلاق الحكومي الأمريكي، هو قطاع الطيران الذي كان من أكثر المتضررين المباشرين من الإغلاق.

فقد أعلنت إدارة الطيران الفدرالية (FAA) فرض قيود جديدة على الطيران الخاص والأعمال في 12 مطاراً رئيسياً، من بينها نيويورك ولوس أنغلوس وشيكاغو وأتلانتا وسياتل، نتيجة النقص الحاد في مراقبي الحركة الجوية الذين يعملون دون رواتب.

وفي الوقت نفسه، طُلب من شركات الطيران التجارية تقليص رحلاتها بنسبة 4% بداية هذا الأسبوع، على أن تصل إلى 10% خلال أيام، ما أدى إلى إلغاء أكثر من 4500 رحلة وتأجيل أكثر من 17 ألف رحلة خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي فقط، بحسب بيانات طالعها بقش من FlightAware.

يأتي ذلك في وقت حساس قبيل عطلة عيد الشكر التي تشهد عادةً ذروة السفر الداخلي في الولايات المتحدة.

إد بولين، رئيس الرابطة الوطنية للطيران الخاص، قال إن السلامة هي حجر الزاوية في الطيران الخاص، لكن استمرار الإغلاق جعل التشغيل في المطارات الكبرى محفوفاً بالمخاطر، ما يفرض قرارات صعبة على المشغلين.

ولم تؤثر الأزمة فقط على قطاع النقل، بل طالت أيضاً الشركات التي تعتمد على الرحلات الخاصة لعقد الاجتماعات وإبرام الصفقات، مما أدى إلى تأجيل صفقات تجارية واستثمارية، وزيادة الضغط على سلاسل التوريد.

كما لم تقتصر الخسائر على قطاع الطيران، إذ شل الإغلاق مكاتب الضرائب والوكالات الصحية والخدمات الاجتماعية، وتأخرت برامج المساعدات للفقراء والمتقاعدين.

واضطر كثير من الموظفين للعمل دون رواتب، فيما لجأ آخرون إلى الاقتراض لتغطية نفقاتهم المعيشية، ما رفع معدلات الديون الشخصية وأدى إلى زيادة حالات التخلف عن سداد القروض قصيرة الأجل.

وتشير تقديرات وزارة الخزانة التي اطلع عليها بقش إلى أن كل أسبوع إضافي من الإغلاق يقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 0.1%، أي إن الإغلاق الحالي قد اقتطع ما يقرب من 0.6 إلى 0.7% من نمو الاقتصاد الأمريكي خلال الربع الأخير من 2025.

مساوئ الإغلاق لا تنتهي بإنهائه

لن تنتهي تأثيرات الإغلاق الأطول في تاريخ أمريكا بمجرد إنهائه، وستبقى التداعيات السيئة حاضرة بالفعل، فالموظفون الذين عانوا من انقطاع الدخل سيتجهون نحو تقليص الإنفاق الشخصي، وستستغرق الشركات شهوراً لإعادة تفعيل العقود المتوقفة.

كما أن تآكل ثقة المستثمرين في استقرار الإدارة الأميركية سيؤثر على أسواق المال، خصوصاً في قطاعي الطيران والطاقة، اللذين شهدا تقلبات حادة خلال الأزمة.

ذلك يعني أن إنهاء الإغلاق لن يكون “نقطة عودة فورية” إلى النمو، بل بداية عملية تعافٍ بطيئة تعتمد على قدرة الحكومة على استعادة الثقة، وضمان استقرار التمويل الفيدرالي حتى نهاية السنة المالية.

وقد أكد هذا الإغلاق على عمق الانقسام السياسي بين الحزبين، واستمرار توظيف القضايا الاجتماعية -كالرعاية الصحية- كورقة ضغط في المفاوضات المالية.

كما أظهر الإغلاق أن أدوات الضغط، مثل تعطيل الحكومة، أصبحت تفقد فاعليتها السياسية تدريجياً، إذ لا يحقق أي حزب مكاسب حقيقية في النهاية، بينما يدفع المواطن والاقتصاد الثمن الأكبر.

ويرى محللون أن الرئيس ترامب قد يخرج من الأزمة بأقل الخسائر، حيث حافظ على موقفه الرافض لتوسيع “أوباماكير”، لكنه اضطر في النهاية للقبول باتفاق محدود التمويل لتفادي مزيد من التدهور الاقتصادي.

أما الديمقراطيون، فنجحوا في إعادة تسليط الضوء على أهمية الرعاية الصحية العامة كملف انتخابي رئيسي قبيل انتخابات التجديد النصفي لعام 2026.

كيف ستتفاعل الأسواق بعد إنهاء الإغلاق؟

في السياق نفسه، وبالنظر إلى بيانات السوق، فإن أسعار الذهب ترتفع حالياً متجاوزةً مستوى 4070 دولاراً للأونصة، وسط الأنباء بشأن التقدم نحو إنهاء الإغلاق الحكومي الأمريكي. ويُعد المستوى متراجعاً بنحو 8% منذ أن سجل مستوى قياسياً فوق 4380 دولاراً للأونصة في منتصف أكتوبر الماضي حسب متابعات بقش، لكنه لا يزال مرتفعاً بأكثر من النصف منذ بداية العام.

ويرى المتداولون أن الأسواق من شأنها أن تتنفس الصعداء بعد إنهاء الإغلاق، معتبرين أن المشكلة سياسية بقدر ما كانت فنية وفقاً لموقع شبكة Investing للبيانات المالية، حيث يتداولون خلال الإغلاق “في فراغ”، مع توقف التقارير الاقتصادية الحيوية (مثل بيانات التضخم والوظائف) التي يعتمد عليها الفيدرالي والأسواق لتقييم صحة الاقتصاد، وهو ما يفسر الأداء الباهت للدولار مقابل ارتفاع الذهب.

ويتيح إنهاء الإغلاق نشر البيانات الاقتصادية الحكومية الرئيسية، وفي حال جاءت هذه البيانات قوية، فإنها تقلل من احتمالات خفض الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي، وهذا بدوره يمثل ضغطاً هابطاً على الذهب.

ومن المرجح أن يؤدي إنهاء الإغلاق الحكومي إلى جني أرباح مؤقت أو تصحيح طفيف في أسعار الذهب، خاصة بعد أن وصل إلى مستويات قياسية، لكن أي تراجع محتمل قد يكون محدوداً وقصير الأمد، لأن المحرك الرئيسي الحالي للذهب هو توقعات خفض أسعار الفائدة وضعف الدولار، وإذا استمرت الأسواق في تسعير خفض الفائدة، فمن المتوقع أن يجد الذهب دعماً قوياً ويستأنف مساره الصعودي.

من جانب آخر، عادةً ما تتفاعل سوق العملات المشفرة، وخاصة البيتكوين، مع انتهاء الإغلاق الحكومي الأمريكي بشكل إيجابي، إذ يتلاشى عدم اليقين الاقتصادي، وتستقر أوضاع السيولة نسبياً، لكن المحرك الرئيسي لسوق الكريبتو يبقى مرتبطاً بـالاحتياطي الفيدرالي.

وإذا أشارت البيانات الأمريكية القادمة -بعد إنهاء الإغلاق- إلى ضعف اقتصادي يعزز توقعات خفض الفائدة، فهذا يمثل دعماً قوياً جداً لسوق العملات المشفرة.

بالنتيجة، يشير اقتراب نهاية الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة إلى بداية فصل جديد في اختبار التوازن بين السياسة والاقتصاد. فبينما يسعى الكونغرس والرئيس إلى حفظ ماء الوجه سياسياً، سيستغرق الاقتصاد الأمريكي عدة أشهر لاستعادة زخمه الطبيعي بعد خسائر تجاوزت عشرات المليارات من الدولارات، وتداعيات طالت قطاعات الطيران، والخدمات، والاستهلاك، وثقة المستثمرين.

زر الذهاب إلى الأعلى