صعود اليورو واليوان في زمن الاضطرابات.. استراحة عالمية من هيمنة الدولار الأمريكي

الاقتصاد العالمي | بقش
في الأسواق العالمية هناك تحول بنيوي لافت يعيد تشكيل خريطة تدفقات رأس المال، ويطرح أسئلة عميقة حول مستقبل هيمنة الدولار في النظام المالي الدولي.
فبينما تمضي إدارة ترامب في سياسات تجارية ومالية مثيرة للجدل، وآخذة في التصعيد تجاه آسيا وأوروبا، تتجه الاقتصادات الآسيوية بشكل متزايد نحو تنويع خيارات التمويل، بعيداً عن الدولار الأميركي الذي احتفظ لعقود بموقع الصدارة.
التحول الذي تحدّثت عنه وكالة “بلومبيرغ” في تقرير اطلع عليه “بقش”، انعكس عن اضطرابات جيوسياسية وتبدّلات اقتصادية وعلاقات تجارية متغيرة تفرض واقعاً جديداً في عالم تتراجع فيه الأحادية الأمريكية لصالح تعددية نقدية آخذة في التوسع.
صعود التمويل باليورو: طفرة غير مسبوقة في آسيا
تشير بيانات بلومبيرغ إلى أن المقترضين من منطقة آسيا والمحيط الهادي رفعوا إصداراتهم المقومة باليورو إلى مستوى قياسي بلغ 23% من إجمالي الإصدارات الثنائية الدولار-اليورو في 2025، بزيادة 6% عن العام الماضي. وهذه القفزة لم تأتِ من فراغ، إذ ارتفعت مبيعات سندات اليورو من قبل الشركات والحكومات الآسيوية بنسبة 75% هذا العام وفق اطلاع بقش، لتصل إلى 86.4 مليار يورو (100.7 مليار دولار).
ورغم أن الإصدارات بالدولار ما تزال تشكل الغالبية، وكانت قد شهدت أيضاً نمواً بنسبة 29% بين المقترضين الآسيويين، فإن حصة الدولار من سوق التمويل تراجعت، ما يعكس اتجاهاً متزايداً للابتعاد عنه، أو على الأقل تقليص الاعتماد عليه، وهذا الميل نحو اليورو يؤكد -وفق خبراء بلومبيرغ- تآكلاً تدريجياً لميزة التمويل الأمريكية.
وأحد أهم محركات هذا التحول كان الاضطراب السياسي والاقتصادي الذي نشأ عن سياسات دونالد ترامب التجارية. فقد أدت الرسوم الجمركية الأمريكية والضغوط التي مارسها ترامب على الاحتياطي الفيدرالي لخفض أسعار الفائدة، إلى زعزعة ثقة المستثمرين العالميين في استقرار الدولار.
وفقاً للخبراء، وأبرزهم دانيال كيم من بنك HSBC، فإن هذا التوجه ليس مجرد رد فعل على أسعار الفائدة، بل هو استراتيجية تنويع حقيقية تهدف إلى تقليل التعرض لمخاطر الدولار، في عالم أصبح أكثر تعددية في مصادر التمويل. كما ساهم تراجع الدولار بنسبة 11% مقابل اليورو في 2025 في جعل التمويل باليورو أكثر جاذبية للمستثمرين الآسيويين.
استبعاد الدولرة
يقول بن وانغ، رئيس أسواق الدين الصينية الخارجية في دويتشه بنك، إن “إزالة الدولرة” أصبحت موضوعاً رئيساً هذا العام. فقد شهدت الأسواق تحولاً ملحوظاً في أحجام التداول، حيث شكلت سندات اليورو أكثر من 10% إلى 20% من تداولات دويتشه بنك في آسيا خلال النصف الثاني من 2025، بعدما كانت نسبة هامشية مطلع العام.
في المقابل، ورغم هذا التراجع النسبي، ما يزال الدولار محافظاً على سيطرته، إذ مثّل 63% من السندات الصادرة بعملات أجنبية في يونيو 2025، بزيادة قدرها 20 نقطة مئوية منذ 2007، وفق بنك التسويات الدولية. أما اليورو فتراجعت حصته حسب قراءة بقش إلى 25% بعد أن كانت 32% قبل 18 عاماً.
لكن كبير اقتصاديي شركة فوجيتسو، مارتن شولتز، يؤكد أن هذه المعطيات تشير إلى تطبيع تدريجي بعد “طفرة دولارية” استمرت طويلاً، بما يعكس عالماً يتجه نحو تعدد الأقطاب المالية.
ويعود جزء كبير من صعود اليورو إلى انخفاض كلفة التمويل، فقد تمكنت شركات آسيوية من الاقتراض باليورو بتكلفة أقل من الدولار أو من عملاتها المحلية. وبلغت علاوة السعر التي يدفعها المستثمرون لمبادلة اليورو بالدولار أدنى مستوى لها في 5 سنوات، عند 3.1 نقطة أساس فقط.
وهذا العامل عزّز جاذبية التمويل الأوروبي للشركات التي تبحث عن تخفيض النفقات وزيادة المرونة المالية.
صفقات آسيوية ضخمة باليورو
من بين أبرز الإصدارات التي شهدتها السوق الأوروبية هذا العام، سندات صينية بقيمة 4 مليارات يورو، جذبت عروضاً تجاوزت 100 مليار يورو، وطرح شركة الاتصالات اليابانية NTT بقيمة 5.5 مليارات يورو، وهو أكبر إصدار آسيوي من نوعه في 2025.
وتكشف هذه الأرقام عن تحول استراتيجي في تمويل الشركات الآسيوية عبر أسواق الغرب بعيداً عن الدولار. ويرى كريس إيغو من شركة أكسا لإدارة الاستثمارات أن ذلك “سوق أوسع للاستثمار، وتنوع في التدفقات النقدية، وفرصة للمؤسسات لجذب رؤوس أموال جديدة”.
وحسب تقديرات أوين غاليمور من دويتشه بنك، ستقفز الإصدارات الآسيوية من سندات اليورو إلى 125 مليار دولار في 2026، بزيادة تفوق 20%.
يوحي ذلك بأن جاذبية القارة الأوروبية كمركز تمويلي ستتواصل، خصوصاً في ظل السياسات النقدية المستقرة نسبياً للبنك المركزي الأوروبي مقارنة بالاحتياطي الأمريكي.
روسيا: خطوة جديدة لإزاحة الدولار
في سياق متصل، دخلت روسيا على خط إعادة تشكيل النظام المالي العالمي بإصدار أول سندات قروض فدرالية مقومة باليوان بقيمة 20 مليار يوان (نحو 2.8 مليار دولار)، وحسب متابعات بقش أعلنت وزارة المالية الروسية استعدادها لطرح هذه السندات سنويًا إذا استمر الإقبال عليها.
يأتي هذا التحرك مدفوعاً بعدة عوامل أبرزها العقوبات الغربية التي ضيقت الخناق على موسكو، وازدياد استخدام اليوان في التبادل التجاري، وتراكم فائض روسي كبير من العملة الصينية، والتوجه الرسمي نحو تقليل الاعتماد على الدولار.
اقتصاد جديد يتشكل بدولار أقل
لا يزال الدولار يحتفظ بالصدارة، لكن التحركات التي تشهدها آسيا وروسيا خلال عامي 2025 و2026 تشير إلى مرحلة انتقالية في النظام المالي العالمي، إذ يعود اليورو لاعباً رئيسياً في التمويل الدولي، واليوان يصبح تدريجياً أداة دين واستثمار، بينما سياسات ترامب التجارية هي التي تُعجّل بتسريع الابتعاد عن الدولار.
في المقابل تشجع تكاليف التمويل الأوروبية الشركات على التحول إلى اليورو، وتعيد التوترات الجيوسياسية توزيع مراكز الثقل النقدية عالمياً.
وقد لا نشهد قريباً نهاية الدولار كعملة احتياطية عالمية، لكن المؤكد أن هيمنته لم تعد مطلقة كما كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وأن المرحلة أشبه باستراحة دولية من هيمنة الدولار، فالعالم يتجه نحو تعددية مالية ونقدية تحكمها حسابات اقتصادية وسياسية أكثر تعقيداً، حيث باتت آسيا وأوروبا وروسيا تشارك الولايات المتحدة ساحة النفوذ المالي، وربما تُعيد رسم قواعد اللعبة في السنوات المقبلة.


