أزمة سيولة خانقة بـ”الريال اليمني” في عدن لأول مرة تاريخياً.. ماذا يحدث؟

الاقتصاد اليمني | بقش
تمر عدن ومحافظات حكومة عدن باختناق نقدي وأزمة سيولة محلية حادة وغير مسبوقة جعلت من الريال اليمني (العملة الجديدة “القعيطي”) عملة صعبة لأول مرة، وتوقفت شركات الصرافة عن شراء الريال السعودي والدولار الأمريكي من المواطنين نظراً لشح السيولة، ويأتي ذلك بعد أيام من بيع كثير من المواطنين مدخرات من العملة الصعبة واستلام مقابلها بالريال اليمني، خلال يومي اضطراب السوق المفتعل (30 و31 أغسطس).
ويعبّر المشهد الراهن عن حالة من الارتباك الاقتصادي وسط ندرة النقد المحلي الجديد الذي طبعت حكومة عدن منه أكثر من 5 تريليونات ريال، ووسط امتلاء الأسواق والمصارف بالعملات الأجنبية.
وحسب معلومات حصل عليها مرصد “بقش”، فإن فائض السيولة من العملات الأجنبية في السوق، إلى جانب تراجع المعروض النقدي المحلي، دفع شركات الصرافة لأول مرة إلى تفضيل دفع الحوالات المالية بالعملات الأجنبية كما هي دون تحويلها إلى الريال اليمني.
ونجمت هذه الأزمة عن عملية المضاربات العكسية التي حدثت في آخر يومين من الشهر الماضي، وشهدت بيعاً كبيراً للعملات الأجنبية للصرافين، مع سيطرة بنك عدن المركزي على كتلة هائلة من النقد المحلي كي يتمكن من التحكم في سعر العملة.
احتجاز الريال في البنوك للتحوط
ويقول الكاتب المتخصص في الشؤون الاقتصادية، الدكتور عارف محمد السقاف، إن هناك الكثير من البنوك التجارية وبنوك الصرافة تعمد إلى احتجاز السيولة المحلية وعدم ضخها في السوق، كنوع من التحوط في مواجهة تقلبات سعر الصرف، فهي تراهن على انخفاض محتمل في قيمة العملات الأجنبية، ما يسمح لها بتحقيق أرباح إضافية من خلال إعادة بيع الريال اليمني بأسعار أعلى.
وضعف الرقابة المصرفية وغياب سياسة نقدية واضحة من البنك المركزي في عدن أسهما في تمكين الصرافين من التحكم في المعروض النقدي، فبنك عدن المركزي لم يتمكن حتى الآن من فرض آليات صارمة تلزم الصرافين والبنوك بتغذية السوق بالسيولة بشكل منتظم. وهناك جزء من الريال اليمني المتداول في عدن ينقل سراً إلى محافظات أخرى، خصوصاً محافظات سلطة صنعاء، بغرض تمويل التجارة الداخلية أو شراء عملات أجنبية من هناك، وهو ما يخلق فجوة نقدية داخل عدن.
وثمة العديد من كبار التجار والمستوردين يحتفظون بكميات كبيرة من الريال اليمني “القعيطي” خارج التداول، إما كوسيلة ضغط أو لتمويل عملياتهم التجارية في أوقات معينة، الأمر الذي يقلل من دوران النقود بين أيدي المواطنين العاديين.
إضعاف للقدرة الشرائية
ثم إن تأخر صرف الرواتب الحكومية وانخفاض حجم الإنفاق الرسمي أديا إلى شح السيولة المتاحة في السوق، ومع تراجع القدرة الشرائية للمواطنين، تتكدس النقود عند قلة من الفاعلين الاقتصاديين بدلاً من أن تتحرك بحُرية في السوق.
ذلك كله مؤدّاه التدهور الإضافي في القدرة الشرائية للمواطنين، حيث ترتفع أسعار المواد الأساسية والخدمات مع كل موجة تقلب محتملة في الصرف، وكذلك نمو السوق السوداء وزيادة المضاربة بالعملة المحلية والأجنبية، وتراجع الثقة في النظام المصرفي بشكل أكبر.
وعلى أزمة السيولة المحلية الخانقة، يعلّق الصحفي الاقتصادي ماجد الداعري بقوله: “لليوم الثاني والريال القعيطي يتصدر قائمة العملات الأكثر طلباً في السوق المحلية، ويواصل تحقيق مكاسبه في مفارقة غريبة وغير مسبوقة في تاريخ الريال اليمني”.
لكن اختفاء السيولة المحلية بهذا الشكل من السوق المحلية وامتناع الصرافين عن شراء السعودي والدولار أو مصارفتهما، يضع -وفقاً للداعري- ألف علامة استفهام حول مصير كتلة النقد المحلي التي تتجاوز خمسة تريليونات من العملة الجديدة ذات الحجم الصغير لوحدها، والتي سبق وضخّها البنك المركزي اليمني في السوق، قبل أكثر من خمس سنوات، متسائلاً: “ماذا يُراد للريال اليمني خلال الأيام المقبلة، من قفزة تموضع جديدة أوالعكس؟!”.
ووفق تحليلات مرصد بقش، يبدو المشهد وكأن الآية قد انقلبت، فحتى الشهر الماضي كانت عدن والمحافظات المجاورة تعاني من أزمة سيولة خانقة من الدولار والعملات الأجنبية وسط تنامي سوق سوداء على إثر القرارات الصادرة عن بنك عدن المركزي التي أوقف بموجبها عشرات شركات الصرافة ومنشآتها، وكذلك بعد أن حدد البنك على البنوك وشركات الصرافة سقف الحوالات وعمليات بيع العملة الأجنبية للأغراض الشخصية للأفراد، عند 2000 دولار فقط عبر شركات الصرافة، و5000 دولار فقط عبر البنوك.
كارثة المضاربة العكسية بتواطؤ المركزي
وخلال يومي 30 و31 أغسطس شهد السوق المصرفي مضاربات واسعة أدت إلى خسائر فادحة للمواطنين نتيجة هبوط مفتعل وغير حقيقي لسعر الصرف بنسبة تجاوزت 10%، حتى وصل صرف الريال السعودي إلى ما بين 290 ريالاً و330 ريالاً، هبوطاً من سعر 428 ريالاً الرسمي، في حين بلغ سعر بيع الدولار أكثر قليلاً من 1,250 ريالاً.
وعلم “بقش” أن كثيراً من المواطنين تدافعوا من أجل بيع ما لديهم من العملات الأجنبية، في محافظات عدة مثل عدن وتعز وحضرموت ومأرب، وفي عدد من البنوك والمصارف، مثل بنك الكريمي، وذلك للتخلص من النقد الأجنبي عقب موجة الهبوط الثانية المفاجئة، خشية تكبد خسائر أكبر.
وبعد انكشاف وهمية الصرف وإعلان البنك المركزي بعدن عن تثبيت سعر الصرف عند 425 ريالاً، احتج مواطنون أمام شركات صرافة وتم إغلاق بعضها، كما حصلت استدعاءات أمنية لمنتسبين وعاملين في قطاع الصرافة، وُصفت فيما بعد بأنها استدعاءات تمت خارج القنوات الرسمية مثل البنك المركزي والنيابة العامة.
وأعلنت جمعية الصرافين بعدن عن الإضراب العام وإغلاق أبوابها في 02 سبتمبر الجاري، احتجاجاً على ما وصفته بـ “الأجواء المشحونة وخطابات التحريض المتواصلة ضد قطاع الصرافة”، وفق البيان الذي حصل بقش على نسخة منه، لكنها في اليوم التالي، 03 سبتمبر، أعلنت عن رفع الإضراب واستئناف عملية البيع والشراء، وبما لا يتجاوز 3,000 ريال سعودي وما يقابله من العملات.
انخفاض الصرف المفاجئ والمفتعل -الذي تلته أزمة شح السيولة المحلية- كان بفعل مضاربة عكسية، بقيام كبار المضاربين بخفض السعر بشكل مصطنع لدفع الناس للبيع، ثم يعاودون الشراء بسعر منخفض لتحقيق أرباح عند عودة السعر للارتفاع. وتسبب هذا العبث بالقيمة الواقعية في خسائر لأهالي المغتربين والمحتفظين بمدخرات من العملات الصعبة مقابل تحقيق مكاسب لصالح المضاربين والتجار، وقد استحوذ بنك عدن المركزي على الأموال من عمليات المصارفة.
لكن نقابة الصرافين الجنوبيين شنت هجوماً على قيادة المركزي، واتهمتها بالعجز والتواطؤ، معتبرةً أن الأموال التي أعلن المركزي استحواذه عليها من عمليات المصارفة لا يمكن اعتبارها ملكاً له، بل هي حقوق انتُزعت من المواطنين تحت ضغط المضاربة، ودعت النقابة إلى إعادة هذه الحقوق عبر آلية واضحة تشمل إصدار سندات أو وثائق تثبت قيمة المعاملات، أو الاستعانة بكاميرات المراقبة في حال غياب الفواتير، وأكدت أن أي محاولة لضم هذه الأموال إلى حسابات البنك دون ضمان حقوق الناس تمثل انتهاكاً صارخاً للعدالة.
وفي المقابل أيّد اقتصاديون هذه التوجهات، مثل الاقتصادي الداعري، الذي اعتبر أن كافة المتضررين المطالبين بتعويضهم “مضاربون”، وأشار إلى أن “الفلوس صارت ملكاً للدولة وبنكها المركزي بموافقة النيابة العامة التي تمثل الشعب، بعد إعلان الصرافين وجمعيتهم عن رفع كشوفات تلك المبالغ إلى البنك المركزي وجعلها تحت تصرفه باعتبارها ملكاً له وفقاً لقرار مجلس إدارته”.
ومن المطالبين بالتعويض، عبدالباسط الصبري، أحد العاملين في مكاتب التخليص بجمرك شحن بمحافظة المهرة. قدّم الصبري شكوى رسمية إلى بنك عدن المركزي -الذي استحوذ على الأموال بشكل رسمي- ضد شركة الثور للصرافة في مديرية شحن، متهماً الشركة بالتلاعب بسعر الصرف ورفضها إعادة فارق الصرف المستحق له.
قال الصبري في الشكوى إنه صَرَف مبلغ 100 ألف ريال سعودي من شركة الثور بسعر صرف 270 ريالاً يمنياً للريال السعودي الواحد، وذلك خلال فترة الانخفاض المفاجئ في السوق، قبل أن يعلن بنك عدن المركزي تثبيت سعر الصرف عند 425 ريالاً، وأضاف أنه بعد الإعلان عن السعر الرسمي، عاد إلى الشركة للمطالبة بفارق الصرف بالريال اليمني، الذي يقدّر بـ15 مليون ريال، لكن الشركة رفضت إعادة المبلغ.
هذه الشكوى هي من بين شكاوى مماثلة من مواطنين وتجار ضد بعض شركات ومحلات الصرافة في مناطق مختلفة من البلاد، متهمين إياها باستغلال تقلبات السوق، وهو ما يضع علامات استفهام حول ملف هذه الخسائر ومدى نجاح بنك عدن المركزي في تحقيق توازن مصرفي يسد الطريق على المضاربات، وذلك يُضاف إلى علامات الاستفهام الكثيرة التي تُطرح حالياً بسبب أزمة النقد المحلي غير المسبوقة التي لم تشهد البلاد مثيلاً لها من قبل وتُنذر بتداعيات وخيمة على الواقع الاقتصادي والمصرفي وأوضاع المواطنين.