الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

اكتشاف تاريخي لثروة من الذهب في الصين.. كيف ستتأثر الأسواق العالمية ولماذا تواصل بكين توسيع مخزونها الذهبي؟

الاقتصاد العالمي | بقش

تعيش الصين لحظة جيولوجية وتاريخية غير مسبوقة بعد سلسلة من الاكتشافات الضخمة لرواسب الذهب التي بدأت تعيد رسم خريطة التعدين العالمية وتفتح باباً جديداً لفهم استراتيجية بكين الاقتصادية في مرحلة تشتد فيها المنافسة الدولية.

فقد أعلنت وزارة الموارد الطبيعية الصينية اكتشاف واحد من أضخم رواسب الذهب في تاريخ البلاد داخل مقاطعة لياونينغ شمال شرقي الصين، مع تقديرات تُعد الأكبر منذ تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، في حدث يعزز مكانة البلاد كقوة عالمية في سوق الذهب ويفتح الباب أمام طفرة تعدين واسعة.

جاء الإعلان في لحظة ترتفع فيها أسعار الذهب إلى مستويات تاريخية، وتتزايد فيها مخاوف الأسواق العالمية من الانكماش والتوترات الجيوسياسية، فيما تتجه البنوك المركزية، وخاصة في الاقتصادات الناشئة، إلى تعزيز احتياطياتها من الذهب كملاذ آمن يتيح فك جزء من الارتباط بالدولار الأمريكي وفق اطلاع بقش. وفي هذا السياق، لم يكن اكتشاف لياونينغ مجرد حدث جيولوجي، بل خطوة تعكس رؤية استراتيجية أعمق تسعى من خلالها بكين إلى تعزيز قدراتها المالية وترسيخ استقلالها النقدي.

ويأتي هذا الاكتشاف الجديد ضمن سلسلة اكتشافات غير مسبوقة خلال الأعوام الثلاثة الماضية، تمتد من هونان في الوسط إلى منغوليا الداخلية في الشمال، وصولاً إلى جبال شينجيانغ في الغرب.

ومع توسع هذه الحزام الجيولوجي المعدني، وتزايد مؤشرات شراء الصين غير المعلن للذهب، بات واضحاً أن البلاد تشهد تحولاً قد يغيّر موقعها في سوق المعادن الثمينة لعقود مقبلة، وربما يعيد تشكيل التوازنات الاقتصادية العالمية.

الاكتشاف التاريخي في لياونينغ: أضخم رواسب ذهب في تاريخ الصين الحديث

شكّل اكتشاف رواسب دادونغقو في لياونينغ نقطة تحول مركزية في قطاع التعدين الصيني، إذ أكدت وزارة الموارد الطبيعية أن المنطقة تحتوي على نحو 2.586 مليار طن من الخام، بما يعادل 1444.49 طناً من الذهب، وبمستوى 0.56 غرام لكل طن، وهي كمية تجعل هذا الموقع واحداً من أكبر الاكتشافات على مستوى العالم. هذا المستوى المنخفض من الدرجة (Low-grade deposit) لم يُضعف من أهمية الاكتشاف، بل عزز مكانة الصين كقوة تعدين قادرة على استغلال احتياطيات ضخمة عبر تقنيات متطورة.

ويشير الخبراء الصينيون إلى أن تنفيذ المشروع خلال 15 شهراً فقط يُعد إنجازاً استثنائياً، إذ شارك فيه أكثر من 1000 خبير وفني ضمن مهمة استكشافية هي الأسرع من نوعها في تاريخ البلاد حسب قراءة بقش. وقد تجاوز الموقع بالفعل مرحلة تقييم الجدوى الاقتصادية الأولية، في مؤشر إلى أن الدولة تستعد للانتقال قريباً نحو مرحلة الإنتاج الضخم.

ورغم أهمية الإعلان، امتنعت السلطات عن الكشف الكامل عن الموقع الدقيق للرواسب، ما أثار تكهنات حول اعتبارات استراتيجية مرتبطة بالأمن القومي وسوق المعادن العالمي. فالصين، التي تدير واحداً من أكبر احتياطيات الذهب الرسمية، تدرك أن أي معلومة تخص مواقع التعدين الكبرى يمكن أن تؤثر على الأسعار العالمية أو تفتح الباب أمام منافسة دولية.

اكتشافات متسارعة تعيد رسم الخريطة الجيولوجية للصين

لا يُعد اكتشاف لياونينغ حدثاً معزولاً، بل جزءاً من سلسلة اكتشافات ضخمة تؤكد أن الصين تدخل مرحلة جديدة من النشاط الجيولوجي المكثّف. ففي نوفمبر من العام الماضي، أعلنت السلطات عن اكتشاف أضخم منجم ذهب في مقاطعة هونان، يحتوي على ما يقرب من 1000 طن من الخام بقيمة تقدَّر بنحو 83 مليار دولار، ليصبح أكبر احتياطي معروف على الأرض في تلك الفترة. هذا الاكتشاف حوّل مقاطعة هونان إلى مركز جديد للتعدين عالي القيمة.

وفي ديسمبر 2022، أعلنت شركة تعدين محلية عن العثور على أكثر من 100 طن من خام الذهب في موقع جديد في منغوليا الداخلية. هذا الاكتشاف جاء ليعزز فرضية أن المناطق الشمالية للصين تحتوي على أحزمة ذهبية ضخمة لم تُستغل بعد. وتبعه اكتشاف كبير آخر في شاندونغ عام 2020، حيث أعلنت شركة “شاندونغ غولد” عن 50 طناً إضافية في مشروع لايتشو وفق مراجعات بقش.

الحدث الأحدث كان في جبال كونلون بمنطقة شينجيانغ، حيث أعلن الجيولوجيون العثور على حزام معدني قادر -نظرياً- على إنتاج أكثر من 1000 طن من الذهب. ورغم أن هذه التقديرات ما زالت مبكرة، إلا أنها تشير إلى أن غرب الصين قد يتحول إلى محور استراتيجي جديد في صناعة الذهب العالمية، خصوصاً مع استخدام الصين تقنيات حفر عميقة تصل إلى 3000 متر، وهي من بين الأكثر تطوراً في العالم.

شراء الصين السري للذهب: سياسة اقتصادية تتجاوز حدود التعدين

تشير تقارير مالية دولية إلى أن الصين لا تعتمد فقط على الاكتشافات الجديدة لتعزيز احتياطياتها، بل تلجأ أيضاً إلى شراء الذهب بصورة سرية وغير معلنة. فقد كشف محللون في “فاينانشال تايمز” حسب اطلاع بقش أن مشتريات الصين الحقيقية من الذهب قد تكون أعلى بعشر مرات مما يظهر في البيانات الرسمية، في ظل سعي بكين إلى تقليل اعتمادها على الدولار.

ورغم أن البنك المركزي الصيني أعلن عن مشتريات بلغت 1.9 طن فقط في أغسطس و1.9 في يوليو و2.2 في يونيو، إلا أن معظم المتعاملين في السوق لا يصدقون هذه الأرقام. ويرى خبراء مثل بروس إيكيميزو أن الاحتياطي الحقيقي للصين قد يصل إلى 5000 طن، أي ضعف الرقم المعلن. كما أشارت تقديرات بنك “سوسيتيه جنرال” إلى أن حجم مشتريات الصين هذا العام قد يصل إلى 250 طناً، أي أكثر من ثلث الطلب العالمي من البنوك المركزية.

ويرى محللون طالع بقش تقديراتهم أن الصين تعتمد هذا النهج السري لتجنب ردود فعل أمريكية محتملة، خاصة في ظل التوترات التجارية والمالية بين البلدين. فزيادة احتياطي الذهب يمنح الصين قدرة أكبر على حماية عملتها وتوسيع نفوذها في النظام المالي العالمي، في وقت تتجه فيه الاقتصادات الناشئة إلى تقليل اعتمادها على الأصول المقومة بالدولار.

كيف تغيّر الصين موازين سوق الذهب العالمي؟

تمتلك الصين اليوم مزيجاً من العوامل التي تجعلها في موقع فريد لتغيير خريطة سوق الذهب العالمي: اكتشافات عملاقة، شراء سري ضخم، وتوسع كبير في الاستهلاك المحلي. فقد بلغ إنتاج الصين 271.78 طناً خلال الأشهر التسعة الأولى من 2025، بزيادة طفيفة، بينما بلغ استهلاكها 682.73 طناً خلال الفترة نفسها، ما يعكس فجوة تتطلب تغطية مستمرة عبر الاستيراد والشراء الاستراتيجي.

كما يشير ارتفاع الطلب على السبائك والعملات الذهبية بنسبة 24.55% إلى أن التوترات الجيوسياسية دفعت الطبقة الوسطى الصينية إلى البحث عن أدوات لحماية ثرواتها، ما حول الذهب إلى “ثقافة ادخار جديدة” تتنامى عبر العقود الأخيرة. بالتزامن، ارتفع الطلب الصناعي على الذهب نتيجة نمو قطاعات التكنولوجيا والإلكترونيات والطاقة الجديدة.

كل هذه العوامل دفعت أسعار الذهب العالمية لتتجاوز 4300 دولار للأونصة للمرة الأولى، مع توقعات بأن تتجاوز 5000 دولار بحلول نهاية 2026. ومع زيادة حصة الذهب من الاحتياطيات العالمية (من 10% إلى 26% خلال عقد واحد)، يبدو أن العالم يدخل مرحلة جديدة يتحول فيها الذهب إلى أحد أعمدة الاقتصاد الدولي، وليس مجرد ملاذ آمن.

تقف الصين اليوم عند مفترق طرق تاريخي، حيث تتقاطع الطموحات الجيولوجية مع الحسابات الاقتصادية والاستراتيجية لتشكيل واقع عالمي جديد. فالاكتشافات الضخمة لرواسب الذهب ليست مجرد إنجازات علمية، بل جزءاً من رؤية شاملة تسعى إلى تعزيز مكانة الصين كقوة اقتصادية قادرة على منافسة الدولار الأمريكي بأدوات مالية صلبة.

ويكشف تزامن الاكتشافات مع شراء الذهب سراً أن بكين تخوض معركة هادئة لإعادة بناء احتياطياتها بطرق بعيدة عن أعين المؤسسات المالية الغربية، ما يمنحها قدرة أكبر على مواجهة الصدمات الاقتصادية العالمية. وفي ظل ارتفاع الطلب المحلي وانفتاح أسواق جديدة، تتحول الصين تدريجياً إلى مركز عالمي لصناعة الذهب واستهلاكه.

ومع استمرار هذا الزخم، يتوقع خبراء أن تلعب الصين دوراً محورياً في تحديد اتجاهات الذهب خلال العقود المقبلة، سواء من خلال التعدين أو الاحتياطي أو التأثير على الأسعار. وإذا استمرت وتيرة الاكتشافات بهذا الشكل، فقد لا تكتفي الصين بتغيير خريطة التعدين العالمية… بل قد تغيّر طبيعة النظام المالي الدولي ذاته.

زر الذهاب إلى الأعلى