تقارير
أخر الأخبار

الأوروبيون يواجهون الرسوم الجمركية الأمريكية بالمقاطعة الشعبية

تقارير | بقش

لم تعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة وأوروبا محصورة في أروقة المفاوضات والسياسات الرسمية، بل تسللت مباشرة إلى سلوك المستهلكين الأوروبيين. دراسة حديثة صادرة عن البنك المركزي الأوروبي اطلع عليها مرصد بقش أظهرت أن أكثر من ربع الأوروبيين – بنسبة 26% – قرروا مقاطعة السلع الأمريكية رداً على الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. هذا التحول الشعبي، بحسب الدراسة، يعكس عمق الغضب تجاه السياسات الاقتصادية الأمريكية، ويمثل بداية مسار قد تكون له آثار طويلة المدى على التجارة بين ضفتي الأطلسي.

اللافت أن المقاطعة لم تأتِ من الأسر الفقيرة أو المتوسطة كما هو معتاد في حالات الغلاء، بل من الأسر ذات الدخل المرتفع التي ترى في استهلاكها اليومي وسيلة ضغط سياسي واقتصادي في آن واحد. هؤلاء يملكون القدرة على استبدال المنتجات الأمريكية ببدائل أوروبية وآسيوية دون أن تتأثر حياتهم اليومية بشكل كبير. أما الأسر المتوسطة والفقيرة، فقد لجأ معظمها إلى خفض الإنفاق الإجمالي، حيث أظهر الاستطلاع أن 1% فقط من المستهلكين ركزوا على الترشيد في نفقاتهم بدلاً من المقاطعة.

من جهته، أشار البنك المركزي الأوروبي إلى أن هذه السلوكيات ليست مجرد ردود فعل وقتية، بل تحمل آثاراً هيكلية على التوقعات الاقتصادية داخل القارة. ووفقاً للدراسة، فإن النزاع التجاري مع الولايات المتحدة “يؤثر بشكل كبير على سلوك وتوقعات الأسر الأوروبية”، خصوصاً أن الرسوم فرضت مستوى جديداً من عدم اليقين الاقتصادي.

تضخم متوقع ونمو اقتصادي مهدد

أظهرت نتائج الدراسة أن 40% من الأوروبيين يتوقعون أن تؤدي الرسوم الأمريكية إلى ارتفاع معدلات التضخم وتراجع النمو الاقتصادي خلال السنوات المقبلة. كما اعتبر 13% أن الرسوم سيكون لها تأثير مباشر على أوضاعهم المالية الشخصية، فيما رأى 24% أنها ستقوض النمو الاقتصادي الكلي في أوروبا. هذه المؤشرات، وفقاً للبنك المركزي الأوروبي، تنذر بتباطؤ محتمل في وتيرة التعافي الأوروبي من آثار جائحة كورونا والحرب الأوكرانية.

التوقعات المحدثة للبنك أظهرت أن التضخم قد يصل إلى 1.9% في عام 2027 مقارنة بـ1.7% في 2026 حسب اطلاع بقش، وهو ما يعكس هشاشة البيئة الاقتصادية الأوروبية أمام التوترات العالمية. هذا الارتفاع في التضخم يأتي في وقت تحاول فيه البنوك المركزية الأوروبية ضبط أسعار الفائدة وتفادي الدخول في ركود جديد.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن الرسوم الأمريكية جاءت في لحظة حساسة تتسم بضعف الثقة الشعبية في المؤسسات الأوروبية، ما جعل الأسر أكثر عرضة للتأثر بالقرارات الاقتصادية الدولية. وأشار مراقبون إلى أن المقاطعة الشعبية تحمل رسالة سياسية مبطنة، مفادها أن الشعوب الأوروبية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما تعتبره “ابتزازاً تجارياً” من قبل واشنطن.

اتفاقات تجارية هشة رغم التفاهمات الرسمية

الاتحاد الأوروبي كان قد وقع اتفاقاً تجارياً مع إدارة ترامب ينص على فرض رسوم أمريكية بنسبة 15% على صادرات أوروبية محددة مثل السيارات والآلات الدقيقة، مقابل تخفيض الرسوم الأوروبية على السيارات الأمريكية إلى 2.5%. كما تضمّن الاتفاق التزاماً أوروبياً بزيادة مشترياته من الطاقة الأمريكية والتوسع في الاستثمارات داخل السوق الأمريكية. ورغم أن هذه التفاهمات جنّبت الطرفين حرباً تجارية مفتوحة، فإنها لم تنجح في تهدئة الشارع الأوروبي الذي يرى في سياسات ترامب تفضيلاً أحادياً لمصالح واشنطن.

ويرى محللون أن هذا الاتفاق قد يكون هشاً وقابلاً للانهيار مع استمرار المقاطعة الشعبية وتصاعد الأصوات داخل البرلمان الأوروبي المطالبة بمراجعة العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة. فإذا ما توسعت رقعة المقاطعة لتشمل قطاعات أوسع مثل الطاقة والسلع الغذائية، فقد تجد بروكسل نفسها مضطرة لإعادة فتح ملف الاتفاق التجاري مع واشنطن.

هذا السيناريو يفتح الباب أمام احتمال أن يتحول الخلاف التجاري إلى خلاف سياسي أوسع، خصوصاً أن بعض القوى الأوروبية بدأت تطرح فكرة تعزيز الشراكات مع الصين والهند كبديل استراتيجي يقلل من الاعتماد على السوق الأمريكية.

انعكاسات على الشركات متعددة الجنسيات

الشركات الأمريكية الكبرى ليست بعيدة عن دائرة التأثر، إذ يرى خبراء أن استمرار المقاطعة الأوروبية سيؤثر بشكل مباشر على إيراداتها. ففي قطاع السيارات مثلاً، تراجعت مبيعات العلامات الأمريكية في السوق الألمانية بنسبة ملحوظة خلال النصف الأول من 2025، بعدما كانت قد حققت نمواً قدره 18% في 2024. وإذا ما استمر هذا الاتجاه، فإن الخسائر قد تصل إلى مليارات الدولارات سنوياً.

أما في قطاع التكنولوجيا، فإن شركات مثل “آبل” و”مايكروسوفت” تواجه بالفعل تحديات مرتبطة بزيادة الضرائب الأوروبية وتنامي المنافسة من الشركات الآسيوية. ومع تصاعد المقاطعة، قد تتسارع خطط هذه الشركات لنقل بعض عملياتها إلى داخل أوروبا لضمان استمرارية المبيعات.

القطاع الزراعي الأمريكي هو الآخر مهدد، إذ أشار خبراء إلى أن منتجات مثل فول الصويا والذرة، التي كانت تجد في السوق الأوروبية منفذاً رئيسياً، قد تواجه انخفاضاً في الطلب مع لجوء المستهلكين إلى بدائل من أمريكا اللاتينية أو أوكرانيا.

تداعيات استراتيجية على العلاقات عبر الأطلسي

المقاطعة الشعبية قد تتحول إلى عامل ضغط سياسي على الحكومات الأوروبية في تعاملها مع إدارة ترامب حسب قراءة بقش. فإذا استمرت هذه الموجة، فقد يضطر الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ مواقف أكثر صرامة، مثل فرض رسوم انتقامية جديدة أو تخفيض الاعتماد على الواردات الأمريكية.

هذا الوضع يعمق الفجوة بين الحلفاء الغربيين في وقت حساس يتسم بتصاعد التهديدات الأمنية والاقتصادية من روسيا والصين. وإذا فقدت واشنطن ثقة الشارع الأوروبي، فقد تجد نفسها أمام تحديات استراتيجية أوسع من مجرد خسائر اقتصادية، إذ سيتعين عليها إعادة بناء صورة “الحليف الموثوق” في القارة العجوز.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش