التصعيد مع الصين يدفع اليابان لرفع إنفاقها العسكري إلى المرتبة الثالثة عالمياً: موازنة قياسية تعيد رسم عقيدة الأمن في شرق آسيا

تقارير | بقش
دخلت اليابان مرحلة جديدة من سياستها الدفاعية بعد إقرار موازنة عسكرية غير مسبوقة تجاوزت 9 تريليونات ين (86 مليار دولار) وفق اطلاع مرصد “بقش”، في خطوة تعكس انتقال طوكيو من سياسة ضبط النفس العسكري إلى مقاربة أكثر هجومية واستباقية. هذه القفزة في الإنفاق لا تمثل مجرد تعديل رقمي في بنود الموازنة، بل تعبيراً واضحاً عن إعادة تعريف اليابان لدورها الأمني في محيط إقليمي يتسم بتصاعد التوترات وتآكل التوازنات التقليدية.
بوصول هذه الموازنة إلى هذا المستوى، تصبح اليابان ثالث أكبر منفق عسكري في العالم، خلف الولايات المتحدة والصين. وهو ترتيب لم يكن متصوراً قبل سنوات قليلة في دولة لطالما قيّدت قوتها العسكرية باعتبارات دستورية وتاريخية تعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
المفارقة أن هذا التحول يحدث في وقت تعاني فيه المالية العامة اليابانية من ضغوط متزايدة، ما يعكس أولوية الأمن القومي على حساب الاعتبارات المالية قصيرة الأجل. فطوكيو تبدو مستعدة لتحمل كلفة سياسية واقتصادية داخلية مقابل إعادة بناء قدرتها الردعية في محيط يتغير بسرعة.
الضغوط الأمريكية والتوتر الصيني: اليابان تتجه للصواريخ والمسيرات
لا يمكن فصل القفزة في الإنفاق الدفاعي الياباني عن الضغوط المستمرة من واشنطن، التي طالبت حليفتها الآسيوية منذ سنوات برفع مساهمتها العسكرية حسب متابعة بقش، خصوصاً في ظل إعادة تموضع الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصين. وقد تعهدت طوكيو بالفعل بتحقيق هدف إنفاق دفاعي يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معيار يتماشى مع متطلبات التحالفات الغربية.
في المقابل، جاء القرار في ظل تدهور ملحوظ في العلاقات مع بكين، خاصة بعد تصريحات تابعها بقش لرئيسة الوزراء اليابانية ساناي تاكايتشي التي ربطت أمن اليابان مباشرة بمصير تايوان. هذه التصريحات اعتبرتها الصين تجاوزاً لخط أحمر سيادي، وردت عليها بإجراءات اقتصادية ودبلوماسية زادت من حدة التوتر بين الجانبين.
هذا التلاقي بين الضغط الأمريكي والتصعيد الصيني خلق بيئة سياسية داخل اليابان تبرر، بل تدفع، نحو تسريع التحول الدفاعي. فطوكيو باتت ترى أن الاكتفاء بالمظلة الأمريكية لم يعد كافياً، وأن امتلاك قدرات ذاتية أكثر تطوراً أصبح ضرورة استراتيجية لا خياراً.
تعكس تفاصيل الموازنة الجديدة ملامح العقيدة الدفاعية اليابانية المتشكلة، حيث خُصصت مئات المليارات من الين لتعزيز القدرات الصاروخية بعيدة المدى، إلى جانب الاستثمار المكثف في الطائرات المسيّرة والأنظمة غير المأهولة. هذا التوجه يعكس إدراكاً يابانياً لتراجع القوة البشرية العسكرية مقابل الحاجة إلى تقنيات تعوض هذا النقص.
ضمن هذا الإطار، تبرز صواريخ Type-12 المطورة محلياً بوصفها أحد أعمدة الردع الجديدة، مع مدى يصل إلى نحو ألف كيلومتر، ما يمنح اليابان قدرة هجومية كانت تفتقر إليها تاريخياً. وتسريع نشر هذه الصواريخ في جنوب غرب البلاد، بالقرب من نقاط الاحتكاك المحتملة، يرسل إشارة واضحة إلى بكين حول جدية طوكيو في الدفاع عن مصالحها.
إلى جانب ذلك، تعتمد اليابان على توسيع وارداتها العسكرية لتسريع الجاهزية، مع انفتاحها على موردين من خارج الدائرة التقليدية، في مؤشر على براغماتية متزايدة في سياساتها الدفاعية، حتى لو تطلب الأمر تجاوز بعض المحاذير السياسية السابقة.
البيئة الأمنية الأخطر منذ 1945
تستند الحكومة اليابانية في تبرير هذا التحول إلى تقييم رسمي يعتبر أن البلاد تواجه أخطر بيئة أمنية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. هذا التقييم لا يقتصر على التهديد الصيني، بل يشمل أيضاً تنامي النشاط العسكري في المنطقة، وتزايد الحوادث الجوية والبحرية، واحتمالات الانزلاق إلى مواجهات غير مقصودة.
المناورات الصينية المتكررة قرب الجزر اليابانية، وحوادث توجيه الرادارات بين الطائرات، عززت هذا الشعور بالهشاشة الأمنية، ودعمت سردية أن الردع التقليدي لم يعد كافياً لضمان الاستقرار. وفي هذا السياق، تُصنّف الاستراتيجية الدفاعية اليابانية الصين بوصفها التحدي الاستراتيجي الأكبر خلال العقد المقبل.
رغم ذلك، تحاول طوكيو إبقاء قنوات التواصل مفتوحة، مؤكدة أن تعزيز قدراتها العسكرية لا يلغي السعي إلى علاقة مستقرة مع بكين. غير أن هذا التوازن بين الردع والحوار يبدو هشاً في ظل تسارع سباق التسلح الإقليمي.
على الصعيد الاقتصادي، يثير هذا التوسع العسكري تساؤلات جدية حول مصادر التمويل واستدامة المالية العامة. فتمويل الموازنة الدفاعية الجديدة مرشح لأن يعتمد على زيادات ضريبية تطال الشركات والدخل والتبغ، في وقت ترتفع فيه عوائد السندات الحكومية إلى أعلى مستوياتها منذ عقود، ويتراجع الين أمام الدولار.
وفي تحليل بقش، يعني ارتفاع أسعار الفائدة زيادة كلفة خدمة الدين، ما يضع الحكومة أمام معادلة صعبة بين الحفاظ على الثقة المالية وتلبية متطلبات الأمن القومي. وتأتي هذه الضغوط في ظل حزم تحفيزية ضخمة أُقرت سابقاً لدعم الاقتصاد، ما يزيد من حساسية الأسواق تجاه أي توسع مالي إضافي.
في المحصلة، لا تمثل الموازنة الدفاعية القياسية مجرد رد فعل على توتر عابر، بل علامة على تحول هيكلي في موقع اليابان داخل معادلة الأمن الآسيوي. تحول قد يعزز ردعها على المدى القصير، لكنه يفتح في الوقت نفسه فصلاً جديداً من التنافس الإقليمي، بكلفة اقتصادية وسياسية ستظل محل نقاش داخلي وخارجي لسنوات قادمة.


