الاقتصاد العربي
أخر الأخبار

السلطة الفلسطينية تُوقف رواتب الأسرى تحت ضغط دولي.. وإسرائيل تدفع باتجاه تصفية آخر رموز الصمود

الاقتصاد العربي | بقش

تدخل قضية الأسرى الفلسطينيين منعطفاً حاداً بعد قرار السلطة الفلسطينية وقف صرف رواتبهم ابتداءً من هذا الشهر، في خطوة جاءت نتيجة ضغوط دولية وإسرائيلية متصاعدة دفعت قيادة السلطة إلى تبني معايير جديدة تُفرغ هذا الملف من مضمونه الوطني والحقوقي. القرار الذي نُشر بمرسوم رئاسي مساء الأحد لا يمسّ فقط آلاف الأسرى القابعين في السجون الإسرائيلية، بل يعيد رسم حدود علاقة السلطة بواحدة من أكثر القضايا حساسية لدى الفلسطينيين.

ويعكس القرار -بحسب مصادر مطلعة- حجم الابتزاز المالي والسياسي الذي تمارسه إسرائيل والولايات المتحدة، عبر حجز مخصصات مالية شهرية من عائدات السلطة، وفرض شروط قانونية قاسية، وربط أي دعم دولي بإعادة صياغة العلاقة مع أسرى الحركة الوطنية.

ورغم أن السلطة تحاول تقديم القرار على أنه “تنظيم إداري”، إلا أنه جاء بعد سنوات من الحصار المالي الذي فرضته إسرائيل تحديداً لمعاقبة الفلسطينيين على تمسكهم بحقوق الأسرى والشهداء.

ورغم أن مؤسسة “التمكين الاقتصادي” التابعة لمنظمة التحرير ستتولى معالجة الحالات المحتاجة، إلا أن المخصصات الجديدة -التي تتراوح بين 1400 و1880 شيكلاً وفق اطلاع بقش- لا تعكس أي التزام سياسي حقيقي تجاه الأسرى، بل تبدو محاولة لتخفيف الضغط الدولي دون الاشتباك مع جوهر القضية. هذه المخصصات التي جاءت بشروط “استحقاق” جديدة، تبتعد تماماً عن فلسفة الرعاية الوطنية التي تأسست عليها مؤسسات منظمة التحرير.

ويبدو أن القرار الحالي لا يمكن فصله عن سياق أكبر: محاولة إسرائيل تحويل ملف الأسرى إلى عبء مالي وأمني على السلطة، ودفعها نحو التخلي التدريجي عن التزامها التاريخي تجاه من واجهوا الاحتلال. وبينما تستمر إسرائيل في حجز أكثر من 52 مليون شيكل شهرياً للضغط على السلطة، تتسع المخاوف من أن يكون وقف الرواتب بداية لمسار أخطر يمس جوهر النضال الفلسطيني.

ضغوط أمريكية وإسرائيلية… والسلطة ترضخ رغم حساسية الملف

شهدت السنوات الأخيرة تصعيداً واضحاً في سياسة الابتزاز المالي التي تعتمدها إسرائيل ضد السلطة الفلسطينية، إذ تحتجز شهرياً عشرات ملايين الشواقل بحجة أنها “تعادل ما تدفعه السلطة للأسرى والشهداء” حسب قراءة بقش. هذا الإجراء لم يكن اقتصادياً بقدر ما كان وسيلة لمعاقبة كل شكل من أشكال الصمود الذي لا تزال بعض مؤسسات منظمة التحرير تتشبث به.

الولايات المتحدة بدورها قادت حملة ضغوط موازية عبر قانون “تايلور فورس” الصادر عام 2018، والذي جعل أي تمويل أمريكي مشروطاً بوقف رواتب الأسرى والشهداء. هذا القانون لم يكن مجرد نص تشريعي، بل أداة ضغط سياسي تضرب مباشرة واحدة من أعمق القضايا الوطنية في وعي الفلسطينيين.

ومع تراكم العقوبات المالية والتجميد المتكرر للمساعدات، وجدت السلطة نفسها أمام معادلة صعبة بين البقاء المالي وبين الالتزام القيمي والتاريخي تجاه الأسرى.

ورغم أن إسرائيل تبرر مطالبها بأن الرواتب “تشجع على العنف”، فإن الحقيقة الواضحة هي أن الاحتلال يسعى إلى ضرب البعد الرمزي للنضال الفلسطيني، وإلغاء الاعتراف الرسمي بدور الأسرى باعتبارهم ضحايا منظومة استعمارية. الضغط الإسرائيلي لم يكن منفصلاً عن حملة منظمة في الإعلام والكونغرس الأمريكي تهدف إلى “شيطنة” الأسرى وتحويلهم من مقاومين إلى مجرمين.

السلطة من جهتها اختارت المسار الأسهل: الانصياع للضغوط الدولية، مع محاولة تغليف القرار بلغة إدارية وبيروقراطية عبر تحويل الملف لمؤسسات جديدة ومعايير جديدة، رغم أن جوهر القضية سياسي ووطني قبل أن يكون مالياً.

مسار التنازلات يتسع

منذ تأسيسها عام 1966، كانت مؤسسة رعاية أسر الشهداء والأسرى جزءاً من هوية منظمة التحرير الفلسطينية، وجزءاً من منظومة الوفاء لمن دفعوا ثمن الكفاح ضد الاحتلال. وبعد قيام السلطة الفلسطينية عام 1994، جرى تثبيت هذه الحقوق في القانون الأساسي، الذي نص بوضوح على تقديم “رعاية خاصة للأسرى وعائلات الشهداء”.

هذا الإرث لم يكن محصوراً في الدعم المالي، بل في الاعتراف السياسي والدستوري بموقع الأسرى والشهداء في مسيرة التحرر. لذلك حرصت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة على إبقاء هذه المنظومة قائمة حتى في أصعب الظروف المالية، إيماناً بأن التخلي عنها يعني التخلي عن جزء من الشرعية الوطنية.

وعندما تعرضت المؤسسة لأزمة مالية في بداية التسعينيات، عادت السلطة بعد تأسيسها إلى إعادة تفعيلها، وتمكينها مالياً وإدارياً. وفي فترات لاحقة -خاصة بين 2010 و2011- عملت شخصيات بارزة من قيادات الحركة الأسيرة السابقة على وضع نظام رواتب عادل، يعكس سنوات الاعتقال ومعاناة الأسر، وهو ما جاء بإشراف مباشر من رئيس الوزراء آنذاك سلام فياض وفي التقارير التي اطلع عليها بقش.

هذه المنظومة لم تكن مجرد بند مالي، بل كانت تعبيراً عن التزام أخلاقي وسياسي. لكن مع تزايد الضغوط الدولية، بدأ مسار التراجع تدريجياً، وصولاً إلى القرار الأخير الذي يعتبره كثيرون أخطر خطوة منذ تأسيس السلطة الفلسطينية.

تعتبر إسرائيل قضية رواتب الأسرى أحد أهم أدواتها لابتزاز السلطة سياسياً، وقد صعّدت موقفها منذ عام 2011 عندما اعترضت على اللوائح الجديدة التي نظّمت حقوق الأسرى. ومع توسع الانتقادات الرسمية والإعلامية الإسرائيلية، رُسمت سردية إسرائيلية منسقة تهدف إلى ربط “الدعم المالي لعائلات الأسرى” بما تصفه إسرائيل بـ“التحريض”.

وفي 2018، ذهبت إسرائيل إلى مرحلة أكثر عدوانية حين أقرّ الكنيست قانوناً يسمح للحكومة باقتطاع كامل المبالغ التي تدفعها السلطة للأسرى والشهداء من أموال المقاصة، وهو ما بدأ تطبيقه فعلياً عام 2019. هذا الاقتطاع المتواصل ساهم في تعميق الأزمة المالية للسلطة، ودفعها للاقتراض، وتقليص الإنفاق، وخلق حالة هشاشة مالية دائمة.

وفي سنوات لاحقة، سعت إسرائيل إلى نقل المعركة إلى القطاع المصرفي الفلسطيني. فقد عاقبت البنوك التي تُصرف عبرها رواتب الأسرى، ما اضطر السلطة إلى نقل عمليات الصرف إلى بنك البريد. لكن حتى هذه الخطوات لم توقف إسرائيل عن متابعة الضغط ومحاولة تجريم كل مظهر من مظاهر الدعم للأسرى.

الهدف الإسرائيلي ليس مالياً، بل سياسياً بامتياز: تفكيك آخر أعمدة الصمود الوطني، وإجبار السلطة على تغيير ثقافتها السياسية، وتحويلها إلى جهاز إداري خاضع لمعايير الاحتلال.

محاولات التفافية فاشلة

حاولت السلطة الفلسطينية خلال السنوات الماضية الالتفاف على الضغوط الدولية عبر إعادة هيكلة وزارة الأسرى وتحويلها إلى هيئة تابعة لمنظمة التحرير، ثم تحويل الرواتب إلى قنوات مالية مختلفة. لكن إسرائيل اعتبرت هذه الخطوات “مراوغة”، واستمرت في الاقتطاعات والملاحقة القانونية.

على المستوى الدولي، جاء الضغط الأمريكي في شكل تشريعات جديدة تسمح لعائلات إسرائيليين رفع دعاوى تعويض ضد السلطة، بدعوى أن “دفع رواتب الأسرى يشجع على الهجمات”، وهو إطار قانوني أعطى الغطاء للابتزاز المالي والسياسي معاً. هذه التشريعات خلقت بيئة عدائية تجعل من أي دعم للأسرى ساحة نزاع دولي.

في المقابل، فشلت السلطة في صياغة رواية سياسية قوية تشرح للمجتمع الدولي طبيعة الاحتلال، وأهمية دعم الأسرى كحق وطني. بل وانزلقت في كثير من الأحيان إلى خطاب إداري بحت، ما جعلها تبدو وكأنها تقبل بتأطير الاحتلال لهذه القضية.

جاء القرار الأخير ليعكس هذا المسار: استجابة كاملة للضغوط، مع التخلي عن جوهر الملف السياسي، واستبداله بنموذج “مساعدة اجتماعية” لا علاقة له بمعنى الأسر ومعنى الشهادة.

يبدو أن السلطة الفلسطينية وصلت إلى مرحلة من الانصياع لم تتجرأ عليها أي قيادة فلسطينية سابقة، إذ اختارت مواجهة الاحتلال بالامتثال لشروطه لا بالاشتباك معه. قرار وقف الرواتب لا يعكس أزمة مالية بقدر ما يعكس تحوّلاً سياسياً خطيراً يبتعد عن الإرث الوطني الذي صيغت عليه منظمة التحرير.

إسرائيل بدورها تنظر إلى القرار كخطوة أولى نحو إعادة تعريف الحركة الوطنية الفلسطينية وفق معايير أمنية إسرائيلية، حيث يتحول المقاوم إلى “مستفيد اجتماعي”، وتصبح حقوق الأسرى قضية إدارية لا قضية حرية وكرامة. وفي ظل هذا المسار، يزداد قلق الفلسطينيين من أن تكون الخطوة مقدمة لتفكيك آخر مؤسسات الصمود.

في النهاية، لا يتعلق الملف بالمال ولا بالموازنات، بل بالسؤال الأعمق: هل لا تزال السلطة الفلسطينية ترى الأسرى والشهداء جزءاً من مشروع التحرر الوطني، أم أصبحت تنظر إليهم من زاوية “كلفة سياسية” يجب التخلص منها لتجنب العقوبات؟ الإجابة ستحدد مستقبل العلاقة بين الشعب وقيادته، وربما مستقبل القضية الفلسطينية نفسها.

زر الذهاب إلى الأعلى