
الاقتصاد العالمي | بقش
شهدت أسواق المعادن النفيسة ظروفاً استثنائية نهاية الأسبوع الماضي مع قفز الفضة إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق، في وقت عزز فيه الذهب مكاسبه الأسبوعية مدعوماً بتزايد التوقعات بأن يتجه مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي إلى خفض أسعار الفائدة خلال العام المقبل. هذه التحركات جاءت في سياق اقتصادي عالمي يتسم بتباطؤ التضخم وارتفاع المخاطر الكلية، ما أعاد الزخم بقوة إلى الأصول التحوطية.
الارتفاع الحاد في أسعار الفضة لم يكن حدثاً معزولاً، بل جاء نتيجة تفاعل معقد بين الطلب الاستثماري المتزايد والقيود المستمرة على جانب المعروض. ففي بيئة تتراجع فيها عوائد الأصول ذات الدخل الثابت، باتت الفضة، إلى جانب الذهب، خياراً مفضلاً للمستثمرين الباحثين عن الحماية من التقلبات وعدم اليقين.
في المقابل، حافظ الذهب على مساره الصاعد، محققاً مكاسب أسبوعية مستقرة، في ظل بيانات اقتصادية أمريكية عززت الرهانات على تحول السياسة النقدية نحو التيسير. ومع تراجع التضخم وارتفاع معدل البطالة، ازدادت قناعة الأسواق بأن دورة التشديد النقدي قد بلغت نهايتها.
هذا المشهد يعكس تحولاً أعمق في سلوك المستثمرين، حيث لم تعد المعادن النفيسة مجرد ملاذ آمن تقليدي، بل أصبحت محوراً رئيسياً في استراتيجيات التحوط وإعادة توزيع الأصول، في ظل تغير موازين السياسة النقدية والاقتصاد الكلي عالمياً.
الفضة في الصدارة: ذروة تاريخية مدفوعة بالاستثمار وشح الإمدادات
قفزت أسعار الفضة في المعاملات الفورية إلى مستوى قياسي غير مسبوق أمس الجمعة وفق تتبُّع بقش، مسجلة 67.45 دولار للأونصة، قبل أن تنهي التداولات عند 67.14 دولار، محققة مكاسب بلغت 2.6%. وعلى أساس أسبوعي، سجلت الفضة ارتفاعاً قوياً بنسبة 8.4 بالمئة، في أداء يعكس زخماً استثمارياً لافتاً.
هذا الصعود الحاد جاء مدفوعاً بزيادة الطلب الاستثماري، سواء من المستثمرين الأفراد أو المؤسسات، في وقت يعاني فيه السوق من قيود واضحة على جانب المعروض. وتراكمت هذه العوامل لتدفع الفضة إلى مستويات لم تشهدها من قبل، متجاوزة دورها التقليدي كمعدن صناعي جزئياً إلى أصل استثماري مستقل.
منذ بداية العام، حققت الفضة مكاسب مذهلة بلغت 132%، متفوقة بشكل واضح على معظم فئات الأصول الأخرى، بما في ذلك الذهب. هذا الأداء الاستثنائي يعكس تحولا في شهية المخاطرة، حيث بات المستثمرون ينظرون إلى الفضة كفرصة ذات عائد أعلى في بيئة تتغير فيها معادلات السياسة النقدية.
ومع استمرار الضغوط على الإمدادات، سواء بسبب محدودية الإنتاج أو ارتفاع الطلب الصناعي والاستثماري، تظل الفضة مرشحة لمزيد من التقلبات، ما يعزز جاذبيتها للمضاربين، ويزيد في الوقت نفسه من حساسيتها لأي تغيرات مفاجئة في المعروض أو الطلب.
الذهب يستعيد دوره التقليدي مع تصاعد رهانات خفض الفائدة
على الجانب الآخر، واصل الذهب أداءه الإيجابي، مسجلاً مكاسب أسبوعية بلغت 1.1%. وارتفع سعر الذهب في المعاملات الفورية إلى 4347.07 دولار للأوقية حسب اطلاع بقش، بينما صعدت العقود الأمريكية الآجلة عند التسوية إلى 4387.3 دولار، في مؤشر على استمرار الطلب القوي.
هذا الأداء جاء مدعوماً بتزايد التوقعات بخفض أسعار الفائدة من قبل مجلس الاحتياطي الاتحادي الأمريكي، بعد صدور بيانات أظهرت تباطؤ التضخم وارتفاع معدل البطالة. فقد أظهرت البيانات أن أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة ارتفعت بنسبة 2.7% على أساس سنوي في نوفمبر، وهو مستوى أقل من توقعات السوق.
إلى جانب ذلك، سجل معدل البطالة ارتفاعاً إلى 4.6% في نوفمبر، وهو أعلى مستوى له منذ عام 2021، ما عزز القناعة بأن الاقتصاد الأمريكي يدخل مرحلة تباطؤ نسبي قد تفرض على البنك المركزي التحول إلى سياسة أكثر مرونة.
في هذا السياق، عزز الذهب موقعه كأداة تحوط رئيسية ضد التباطؤ الاقتصادي وتقلبات السياسة النقدية، مستفيداً من تراجع العوائد الحقيقية وارتفاع حالة عدم اليقين بشأن مسار الاقتصاد الأمريكي والعالمي خلال الفترة المقبلة.
ديناميكيات الترابط: الفضة تقود والذهب يلاحق
رغم الترابط التاريخي بين الذهب والفضة، أظهرت حركة الأسعار خلال الشهرين الماضيين تحولاً لافتاً، حيث باتت الفضة هي التي تقود موجة الارتفاع، خلافاً للنمط التقليدي الذي يتصدر فيه الذهب المشهد. هذا التحول لفت انتباه المتعاملين في الأسواق العالمية.
ويرى متعاملون تابع بقش تقديراتهم أن هذا الاتساع في الفجوة بين أداء المعدنين قد يدفع المستثمرين إلى إعادة التوازن، عبر زيادة الإقبال على الذهب بهدف تضييق الفارق السعري على المدى القصير. هذا السلوك يعكس طبيعة الأسواق التي تميل إلى تصحيح الاختلالات عندما تصل الفروقات إلى مستويات غير معتادة.
في الوقت نفسه، فإن صعود الفضة بهذه الوتيرة السريعة يزيد من احتمالات جني الأرباح، ما قد يمنح الذهب فرصة لاستعادة زمام القيادة مؤقتاً، خاصة في حال تراجع شهية المخاطرة أو تجدد المخاوف الاقتصادية.
ورغم ذلك، يبقى الترابط بين المعدنين قائماً، مع اختلاف أدوارهما تبعاً للمرحلة الاقتصادية، حيث تميل الفضة إلى التفوق في فترات الزخم الاستثماري، بينما يستعيد الذهب بريقه في لحظات التحوط القصوى.
المعادن النفيسة الأخرى تلتحق بالموجة الصاعدة
بقراءة بقش، لم تقتصر المكاسب على الذهب والفضة، إذ شهدت بقية المعادن النفيسة ارتفاعات قوية مدفوعة بالزخم نفسه. فقد صعد البلاتين بنسبة 3.1% ليصل إلى 1975.51 دولار، بعد أن لامس أعلى مستوياته في أكثر من 17 عاماً خلال الجلسة السابقة.
هذا الارتفاع يعكس تحسناً في الطلب على البلاتين، سواء لأغراض صناعية أو استثمارية، في ظل تحسن التوقعات الاقتصادية لبعض القطاعات، وتزايد الاهتمام بالأصول البديلة ضمن سلة المعادن النفيسة.
كما ارتفع البلاديوم بنسبة 0.8% إلى 1709.75 دولار، بعد أن سجل أعلى مستوياته في نحو ثلاث سنوات في وقت سابق من الجلسة. ويشير هذا الأداء إلى عودة تدريجية للاهتمام بالبلاديوم، بعد فترة من التقلبات الحادة.
مجمل هذه التحركات يؤكد أن أسواق المعادن النفيسة تشهد موجة صعود شاملة، مدفوعة بعوامل نقدية واقتصادية مشتركة، وليس بحدث منفرد أو مضاربة قصيرة الأجل.
تعكس القفزات القياسية في أسعار الفضة والمكاسب المستقرة للذهب تحولاً هيكلياً في سلوك المستثمرين، مع اقتراب السياسة النقدية الأمريكية من مرحلة أكثر تيسيراً. ففي ظل تباطؤ التضخم وارتفاع البطالة، عادت المعادن النفيسة إلى الواجهة كأدوات تحوط أساسية.
تفوق الفضة اللافت منذ بداية العام يكشف عن شهية متزايدة للمخاطرة المدروسة، لكنه في الوقت نفسه يرفع من احتمالات التقلبات الحادة، خاصة إذا ما تغيرت التوقعات بشأن الفائدة أو تحسن المعروض. أما الذهب، فيواصل لعب دوره التقليدي كمرساة استقرار في محفظة المستثمرين.
في المحصلة، تشير هذه التطورات إلى أن أسواق المعادن النفيسة تدخل مرحلة جديدة، قد تشهد إعادة توزيع للأدوار بين الذهب والفضة وبقية المعادن، في ظل عالم يتغير فيه ميزان السياسة النقدية والاقتصاد الكلي بوتيرة متسارعة.


