
تقارير | بقش
دخل الإغلاق الحكومي الأمريكي يومه السادس والثلاثين، ليصبح الأطول في تاريخ البلاد، تاركاً خلفه تداعيات واسعة على مختلف القطاعات، وعلى رأسها قطاع النقل الجوي.
وفي أحدث الخطوات الأمريكية الاضطرارية، أعلن وزير النقل الأمريكي “شون دافي” عن خفض الرحلات الجوية بنسبة 10% في أربعين مطاراً رئيسياً عبر الولايات المتحدة وفق اطلاع مرصد “بقش”، في محاولة للحد من مخاطر السلامة التي تفاقمت بسبب نقص مراقبي الحركة الجوية العاملين بدون رواتب منذ بداية الإغلاق في 01 أكتوبر 2025.
وأوضح الوزير دافي، في مؤتمر صحفي عقده في واشنطن، أن القرار يأتي بعد “فحص دقيق لمهمة الوزارة وتقييم سري للسلامة”، أظهر أن استمرار الضغط على مراقبي الحركة الجوية بات يشكّل خطراً على سلامة المجال الجوي الأمريكي.
وأضاف أن “القرار يمكن عكسه في حال توصل الديمقراطيون والجمهوريون إلى اتفاق يعيد فتح الحكومة”، في إشارة واضحة إلى توظيف الأزمة في الصراع السياسي الدائر بين الحزبين.
وجاء الإغلاق نتيجة خلاف حاد بين الديمقراطيين والجمهوريين في الكونغرس حول مشروع قانون تمويل الحكومة، إذ يتمسك الديمقراطيون بضرورة تضمين دعم التأمين الصحي في القانون، فيما يرفض الجمهوريون ذلك. وبينما يتبادل الطرفان الاتهامات، يحاول الرئيس ترامب والجمهوريون تكثيف الضغوط على الديمقراطيين من خلال تعميق الأثر المعيشي والاقتصادي على المواطنين.
مخاطر على المطارات وشركات الطيران
لم تكشف الحكومة بعد عن أسماء المطارات الأربعين المشمولة بالقرار، لكن من المتوقع أن تشمل أكثر ثلاثين مطاراً ازدحاماً في البلاد، مثل تلك التي تخدم نيويورك، وواشنطن العاصمة، وشيكاغو، وأتلانتا، ولوس أنجلوس، ودالاس. وتشير تقديرات تتبَّعها بقش لشركة سيريوم لتحليلات الطيران إلى أن التخفيضات قد تطال نحو 1800 رحلة جوية وأكثر من 268 ألف مقعد خلال الفترة القادمة.
ووفقاً لمصادر في قطاع الطيران نقلتها وكالة رويترز، ستبدأ إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) بتقليص الطاقة الاستيعابية للمطارات بنسبة 4%، ثم 5% يوم السبت، و6% يوم الأحد، لتصل إلى 10% بحلول الأسبوع المقبل. وستُستثنى الرحلات الدولية من التخفيضات مؤقتًا، لكن المسؤولين لم يستبعدوا فرض قيود إضافية بعد الجمعة إذا استمرت الأزمة.
تأتي هذه القرارات في وقت تعاني فيه إدارة الطيران الفيدرالية من نقص يقارب 3500 مراقب حركة جوية، ما اضطر كثيرين منهم إلى العمل ساعات إضافية إلزامية لستة أيام في الأسبوع حتى قبل الإغلاق.
ومع استمرار توقف صرف الأجور، ارتفعت حالات الغياب، إذ أفاد مدير إدارة الطيران الفيدرالية برايان بيدفورد أن 20% إلى 40% من المراقبين الجويين في أكبر 30 مطاراً لم يحضروا إلى العمل يوم الثلاثاء الماضي، محذراً من أن الوضع قد يخرج عن السيطرة إن لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة.
شركات الطيران تحت الضغط ومحاولة لطمأنة العملاء
بدأت شركات الطيران الأمريكية في اتخاذ خطوات سريعة للتكيّف مع القرار الجديد خلال فترة لا تتجاوز 36 ساعة.
وأعلنت شركة الخطوط الجوية المتحدة (United Airlines)، على لسان رئيسها التنفيذي سكوت كيربي، عن خطة لخفض الرحلات الداخلية والإقليمية، مع الإبقاء على الرحلات الطويلة بين المراكز الرئيسية دون تغيير.
وأكد كيربي أن الشركة ستلتزم بسياسة استرداد مرنة تتيح لأي عميل إلغاء رحلته واستعادة أمواله، حتى وإن لم تتأثر الرحلة فعلياً.
أما شركة الخطوط الجوية الأمريكية (American Airlines) فأعلنت أن معظم عملائها لن يواجهوا سوى انقطاعات محدودة، بينما قالت شركة ساوث ويست (Southwest Airlines) -وهي أكبر شركة طيران محلية- إنها ما زالت تُقيّم أثر التخفيضات على جدول رحلاتها، وحثت الكونغرس على التوصل إلى حل فوري للأزمة.
في المقابل، عبّرت جمعية مضيفات الطيران الأمريكية (CWA)، التي تمثل نحو 55 ألف مضيفة في 20 شركة طيران، عن استيائها الشديد، ووصفت الإغلاق بأنه “هجمات قاسية على جميع الأمريكيين”.
وذكرت رئيسة الجمعية سارة نيلسون أن “الرواية الزائفة التي تصور الأزمة وكأنها خيار بين دفع رواتب الموظفين الفيدراليين أو حماية الرعاية الصحية بأسعار معقولة هي كذبة فاضحة” حسب قراءة بقش، مؤكدة أن “الطرفين قادران على إنهاء الأزمتين معاً إن أرادوا”.
التأثيرات الاقتصادية تتصاعد
منذ بدء الإغلاق، تأثرت أكثر من 3.2 مليون رحلة جوية بسبب نقص المراقبين، وتأجلت أكثر من 2100 رحلة يوم الأربعاء فقط، فيما يواجه الركاب فوضى في خدمات العملاء ومراكز الاتصال.
كما تراجعت أسهم شركات الطيران الكبرى بنحو 1% في التداولات الممتدة حسب اطلاع بقش، وسط مخاوف من انخفاض كبير في الحجوزات المستقبلية إذا استمر الإغلاق لفترة أطول.
إلى جانب القطاع الجوي، تسبّب الإغلاق في إجازة نحو 750 ألف موظف فيدرالي، وحرمان مئات الآلاف من ذوي الدخل المنخفض من المساعدات الغذائية والخدمات الحكومية الأساسية، ما يضاعف الضغط الاجتماعي والسياسي على الإدارة الأمريكية.
وتحاول إدارة ترامب تحويل الضغط الشعبي إلى أداة سياسية لدفع الديمقراطيين إلى طاولة المفاوضات، مستخدمةً شلل النقل الجوي كوسيلة ضغط فعالة نظرًا لتأثيره المباشر على حياة الأمريكيين اليومية.
لكن هذا النهج ينطوي على مخاطر كبيرة، إذ إن تزايد الغضب الشعبي من تعطل الخدمات الأساسية قد ينعكس سلباً على الحزب الجمهوري، خاصة مع تزايد الأصوات داخل الكونغرس التي تحمّل الحكومة مسؤولية “استخدام حياة الناس كورقة تفاوضية”.
وفي هذا السياق، حذر الوزير دافي من أن استمرار الإغلاق لأسبوع إضافي سيؤدي إلى “فوضى جماعية” في المجال الجوي، وربما يجبر السلطات على إغلاق أجزاء من المجال الجوي الوطني أمام الرحلات المدنية، إضافة إلى تقييد إطلاق المركبات الفضائية ورحلات الطيران العام.
ويتجاوز قرار خفض الرحلات بنسبة 10% بُعده التقني إلى أبعاد أعمق تتعلق بالثقة في مؤسسات الدولة الأمريكية، وقدرتها على إدارة الأزمات السياسية دون الإضرار بالمرافق الحيوية.
فالنظام الفيدرالي الأمريكي يقوم على توازن دقيق بين السلطات، لكن استمرار الإغلاق لأكثر من شهر يعكس شللاً مؤسسياً غير مسبوق، حيث أصبحت الخلافات الحزبية تهدد الأمن الاقتصادي والوظيفي لملايين الأمريكيين.
كما أن اللجوء إلى قرارات طارئة مثل خفض الرحلات الجوية، يكشف عن تآكل قدرة الإدارة على ضمان استمرارية الخدمات الحيوية، مما ينعكس على صورة الولايات المتحدة كدولة مؤسسات مستقرة.
ومع أن وزارة النقل تحاول إظهار أن القرار مؤقت ومرتبط حصراً بسلامة الطيران، فإن المراقبين يرون أنه رسالة ضغط سياسية موجهة للديمقراطيين أكثر من كونه إجراءً فنياً بحتاً.


