
تقارير | بقش
تواجه الأمم المتحدة واحدة من أخطر أزماتها المالية منذ تأسيسها سنة 1945، مع تحذير أمينها العام أنطونيو غوتيريش من دخول المنظمة “سباقاً نحو الإفلاس” إذا لم تسدد الدول الأعضاء التزاماتها المالية في الوقت المحدد.
فبعد أعوام من التحذيرات المتكررة بشأن تراكم المتأخرات، باتت الأزمة اليوم أكثر حدة، مع تراجع الثقة بين الأمانة العامة والدول الممولة، وتقلص الموارد التشغيلية بوتيرة تهدد قدرة المنظمة على الاستمرار في تنفيذ مهامها الأساسية.
تعكس الميزانية المقترحة لعام 2026 هذا الانحدار المالي الواضح، إذ بلغت 3.238 مليارات دولار فقط، بانخفاض كبير عن المبلغ الأصلي الذي طلبه غوتيريش سابقاً والبالغ 3.715 مليارات دولار وفق متابعات مرصد “بقش”، أي بتراجع يقارب 15.1% مقارنة بميزانية عام 2025.
وبينما يصف الأمين العام هذا التقليص بأنه “ضرورة مؤلمة”، يحذّر خبراء من أن التراجع بهذا الحجم قد يشل عمل الإدارات الجوهرية ويقوّض مكانة الأمم المتحدة كجهاز تنفيذي للنظام الدولي.
لكن الخطر الأكبر لا يكمن في حجم التخفيض وحده، بل في غياب الانتظام المالي للدول الأعضاء. فحتى نهاية سبتمبر 2025، لم تسدد سوى 136 دولة من أصل 193 مساهماتها المقررة بالكامل، في حين تأخرت قوى كبرى مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والمكسيك عن دفع التزاماتها، ما جعل الأزمة تتحول من مسألة إدارية إلى أزمة ثقة بين الأمم المتحدة وأعضائها.
نزيف مالي متسارع: ميزانية تقلّ وتصاعد في العجز
أمام اللجنة الخامسة للجمعية العامة، المختصة بالشؤون المالية والإدارية، قدّم غوتيريش صورة قاتمة عن الوضع المالي. فارتفاع المتأخرات، وتأخر المساهمات، وعمليات “إعادة الاعتمادات” إلى بعض الدول، استنزفت السيولة النقدية ودفعت بالأمانة العامة إلى حافة العجز.
بلغت متأخرات المساهمات نهاية العام الماضي 760 مليون دولار، يُضاف إليها إعادة 300 مليون دولار إلى الدول الأعضاء في مطلع عام 2026 وفق اطلاع بقش على البيان المالي، ما يعني استنزاف نحو 10% من السيولة المتاحة.
وفي حال استمرار التأخر في التحصيل، حذّر غوتيريش من احتمال اضطرار المنظمة إلى إعادة 600 مليون دولار إضافية في 2027، ما يعادل خُمس ميزانيتها تقريباً.
وبدأت الأمم المتحدة عام 2025 بعجز قدره 135 مليون دولار، ومع نهاية سبتمبر لم تتلق سوى 66.2% من المساهمات المقررة لهذا العام، مقارنة بـ78.1% للفترة نفسها في 2024.
هذا التراجع المتواصل يُنذر، بحسب الأمين العام، بأن المنظمة “تتحرك بخطى ثابتة نحو الإفلاس إن لم تُتخذ إجراءات عاجلة”.
تخفيضات كبرى في الوظائف والبرامج
تحمل ميزانية 2026 بصمتها الصارمة على الهيكل الإداري، إذ تقرر خفض عدد الموظفين من 13,809 إلى 11,594 وظيفة، أي بنسبة 18.8% مقارنة بعام 2025. وتركز هذه التخفيضات على الإدارات الإدارية والبيروقراطية الكبرى، مع السعي للحفاظ على البرامج الموجهة مباشرة للدول الأعضاء، خاصة الدول الأقل نمواً والجزرية الصغيرة والبلدان النامية غير الساحلية.
ومع أن الأمم المتحدة تحاول حماية برامج التنمية والدعم الإقليمي، فإن تأثير التقليص بدأ يظهر في تراجع الأنشطة الميدانية، وتأجيل بعض المهام الفنية، وتقليص النفقات التشغيلية في المكاتب الإقليمية. ورغم أن الميزانية العادية تُموّل من الاشتراكات الإلزامية للدول الأعضاء، فإن استدامتها باتت موضع شكّ في ظل تنامي العجز المالي.
وبحسب غوتيريش، فإن الخطط البديلة تشمل دمج إدارة الرواتب تحت مظلة واحدة، ونقل بعض الوظائف إلى مراكز منخفضة التكلفة، وإنشاء منصات إدارية مشتركة في نيويورك وبانكوك. لكن هذه الخطوات، رغم طابعها الإصلاحي، لا تخفي حقيقة أن المنظمة تدخل مرحلة “ترشيد اضطراري”، هدفها البقاء لا التطوير.
الأزمة تتجاوز عام 2026: شبح الإفلاس يمتد إلى 2027 ومحاولات للإصلاح
الأمين العام حذّر بوضوح من أن أزمة السيولة لن تتوقف عند العام القادم. ففي حال استمرار تأخر المساهمات، ستواجه الأمم المتحدة فجوة تمويلية تمتد حتى عام 2027، بما يهدد قدرتها على دفع رواتب الموظفين، وتمويل البعثات السياسية، وإدارة برامج التنمية والمساعدات الإنسانية.
وتُظهر الحسابات أن استمرار وتيرة التأخر في السداد الحالية قد يؤدي إلى انخفاض احتياطي النقد بنحو 20% خلال عامين. ويقول غوتيريش: “أي تأخير في التحصيل سيجبرنا على خفض الإنفاق أكثر، وسنواجه احتمال إعادة مئات الملايين إلى الدول الأعضاء بدل توجيهها للبرامج الأساسية”.
الأزمة مرشحة للتفاقم مع دخول ميزانية حفظ السلام السنوية في دورتها الجديدة (يوليو 2025 – يونيو 2026)، إذ تتطلب تمويلاً مستقلاً يعتمد بدوره على التزامات الدول نفسها، ما يعني أن أي تأخير إضافي سيؤثر مباشرة في عمليات الانتشار الميداني ويهدد استقرار بعض بعثات الأمم المتحدة الأكثر حساسية.
وتحت عنوان “مبادرة الأمم المتحدة 80”، تسعى الأمانة العامة لإطلاق عملية إعادة هيكلة واسعة لجعل النظام الإداري أكثر مرونة وكفاءة من حيث التكلفة. تشمل الخطة إنشاء فريق عالمي موحد لإدارة الرواتب، وتوسيع نطاق استخدام المنصات المشتركة، وإعادة توزيع الموارد البشرية على مناطق أقل كلفة.
ورغم هذه الجهود، ظل جوهر المشكلة مالياً لا إدارياً. فالإصلاحات التقنية لا يمكنها تعويض غياب التمويل، ولا يمكنها معالجة تأخر المساهمات الذي يمثل جوهر الأزمة. كما أن خفض النفقات لا يعني بالضرورة رفع الكفاءة، بل قد يؤدي إلى إنهاك الموظفين وتقليص القدرات التشغيلية للمنظمة.
مع ذلك، تواصل الأمم المتحدة تمويل أولوياتها الأساسية: 37 بعثة سياسية خاصة، ونظام المنسقين المقيمين بمخصص قدره 53 مليون دولار، وصندوق بناء السلام بقيمة 50 مليون دولار.
كما ستوسع مفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان مكاتبها الإقليمية -رغم الضغوط المالية المتصاعدة- في أديس أبابا، بانكوك، بيروت، داكار، مدينة بنما، بريتوريا، وفيينا.
المداولات المقبلة: سباق مع الزمن قبل ديسمبر
تستعد اللجنة الخامسة للجمعية العامة خلال الأسابيع القادمة لمناقشة الميزانية المعدلة مع رؤساء إدارات الأمانة العامة وكبار مديري البرامج. ومن المقرر حسب متابعة بقش أن ترفع اللجنة توصياتها إلى الجمعية العامة بكامل هيئتها قبل نهاية ديسمبر لاعتماد الميزانية النهائية لعام 2026.
لكن حتى مع إقرار الميزانية، لن تنتهي الأزمة ما لم تلتزم الدول الأعضاء بدفع التزاماتها في الوقت المحدد. فالمشكلة لم تعد في القرارات بقدر ما هي في التنفيذ؛ إذ إن تأخر التمويل بات يهدد ليس فقط مشاريع التنمية، بل شرعية المنظمة كمؤسسة قادرة على العمل باسم المجتمع الدولي.
وتتوقع دوائر الأمم المتحدة أن تبدأ بعض الدول الكبرى بتسديد جزء من التزاماتها مع اقتراب نهاية العام، وهو ما قد يمنح المنظمة متنفساً مؤقتاً، لكنّ استمرار هذا النمط من التأخير قد يجعل “الإفلاس الإداري” أمراً واقعاً في غضون عامين، ما لم تُغيّر الدول الممولة سلوكها المالي جذرياً.
ما تواجهه الأمم المتحدة اليوم يتجاوز “أزمة السيولة المالية” ليصبح تحولاً في التوازن المالي والسياسي للمنظمة الدولية. فحين تمتنع دول كبرى -وخاصةً أمريكا- عن تسديد التزاماتها في الوقت المحدد، فإنها تُرسل رسالة واضحة: أن التزاماتها السياسية لم تعد أولويّة، وأن دعم النظام الدولي القائم يتراجع أمام حسابات النفوذ والمصالح الوطنية.
خفض الميزانية بهذا الشكل يضع المنظمة في موقف دفاعي دائم، يضطرها إلى العمل بنصف طاقتها بينما تتضاعف التحديات العالمية، من النزاعات والحروب إلى التغير المناخي وانهيار سلاسل الإمداد. وتُعد هذه مفارقة مؤلمة: العالم بحاجة إلى أمم متحدة أقوى، فيما المنظمة نفسها أضعف من أي وقت مضى.
ومع غياب تمويل مستقر، قد يتحول شعار “الأمم المتحدة” إلى رمزية أكثر من كونه سلطة تنفيذية فعالة، وسيبقى مستقبلها مرهوناً بمدى استعداد الدول الأعضاء لوضع المصلحة الجماعية فوق الحسابات الفردية. وحتى يحدث ذلك، ستظل الأمم المتحدة تسير في سباق شاق مع الإفلاس، تحاول إنقاذ ذاتها قبل أن تُطالب بإنقاذ العالم.