
تقارير | بقش
في خطوة وُصفت بأنها الأكثر جدلاً منذ عقود في سياسات الهجرة الاقتصادية للولايات المتحدة، فرض الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مع حلول 21 سبتمبر 2025، شرطاً غير مسبوق على الراغبين في دخول سوق العمل الأمريكية عبر تأشيرة H-1B. يقضي القرار بدفع مبلغ 100 ألف دولار مع أي طلب جديد لهذه التأشيرة المتخصصة، وهو ما أثار عاصفة من الجدل في الأوساط الاقتصادية، القانونية، والشركاتية داخل الأمريكية وخارجها.
جاء القرار عبر إعلان رئاسي استند إلى المادة 212(f) من قانون الهجرة والجنسية، وهي المادة التي تمنح الرئيس صلاحيات واسعة لتقييد دخول الأجانب متى اعتُبر ذلك “ضاراً بالمصالح القومية”.
وبحسب النص الرسمي الذي اطلع عليه بقش، فإن الهدف هو تقليص الاعتماد على العمالة الأجنبية الماهرة، ورفع سقف المنافسة أمام المواطنين الأمريكيين، مع إحداث توازن في سوق العمل التي لطالما اعتمدت على مئات الآلاف من المبرمجين والمهندسين من الخارج.
لكن ما بدا قراراً محلياً في ظاهره، سرعان ما اتضح أن له ارتدادات عالمية، خاصةً في الاقتصادات التي تعتمد على تصدير الكفاءات التقنية إلى الولايات المتحدة مثل الهند، الصين، والفلبين، بل وحتى في دول نامية تشهد نزيفاً للعقول نحو وادي السيليكون.
خلفية قانونية: من الرسوم إلى “دفعة الدخول”
يختلف الإجراء الجديد جذرياً عن الرسوم التقليدية لملفات الهجرة. خدمة المواطنة والهجرة الأمريكية أكدت أن القرار لا يعد “رسماً” يُسدد للحكومة مقابل خدمة، وإنما هو شرط دخول إلزامي، بحيث لا يُسمح للعامل الأجنبي بالمرور إلا إذا أرفقت جهة العمل إثبات سداد 100 ألف دولار مع الالتماس. بهذا، يكون الإجراء أشبه بضريبة عبور أو “حاجز مالي” وُضع أمام المنافسين الدوليين.
كما أن الإجراء مؤقت من الناحية القانونية، إذ حُددت مدته الأولية بـ 12 شهراً قابلة للتمديد بقرار رئاسي لاحق. ومع ذلك، يرى خبراء قانونيون أن إدخاله عبر بوابة المادة 212(f) يفتح الباب أمام طعون قضائية واتهامات بسوء استخدام الصلاحيات التنفيذية. فالمادة صُممت بالأساس لحالات الطوارئ الأمنية والصحية، وليس لفرض مدفوعات بهذا الحجم.
البيت الأبيض شدد على أن القرار لا يطال الحالات السابقة، ولا يشمل التجديدات أو التمديدات لحاملي H-1B الحاليين. كما أن الإعفاءات ممكنة في إطار “المصلحة الوطنية”، لكنها تتطلب موافقة خاصة من وزير الأمن الداخلي، ما يجعلها استثناءً نادراً.
التأثير على شركات التقنية وسوق الابتكار
وفق قراءة بقش، تُعد تأشيرة H-1B العمود الفقري لشركات التقنية الأمريكية الكبرى مثل مايكروسوفت، غوغل، ميتا، وأمازون، حيث تعتمد هذه الشركات على آلاف المهندسين والباحثين من جنوب آسيا والشرق الأوسط. ومع فرض شرط 100 ألف دولار، ارتفعت المخاوف من أن يثقل القرار كاهل الشركات الصغيرة والناشئة التي لا تمتلك الموارد المالية الكافية لدفع هذا المبلغ عن موظفيها.
تحذيرات صدرت من وول ستريت ومن مراكز بحثية متخصصة، اعتبرت أن القرار سيقود إلى تراجع القدرة التنافسية الأمريكية في سوق الابتكار العالمي. كما أن الأسواق شهدت بالفعل انخفاضاً في أسهم شركات تكنولوجيا هندية مدرجة في البورصة الأمريكية، باعتبار أن الطلب على خدماتها سيتراجع مع تقلص حصة مواطنيها من تأشيرات H-1B.
ومع ذلك، يرى مؤيدو القرار أن هذه الخطوة قد تُعيد تشكيل سوق العمل الأمريكي لمصلحة العمالة المحلية. فارتفاع تكلفة استقدام موظف أجنبي قد يدفع الشركات إلى الاستثمار أكثر في تدريب وتوظيف الأمريكيين، حتى لو تطلب الأمر سنوات لتعويض الفجوة في المهارات.
القرار لم يمر بهدوء. نواب ديمقراطيون وصفوه بأنه “ضريبة على العقول”، فيما سارع اتحاد المحامين الأمريكيين المتخصصين بالهجرة إلى الإشارة لإمكانية الطعن القضائي. فالقرار برأيهم لا يختلف عن فرض رسم تشريعي جديد، وهو أمر لا يدخل في صلاحيات الرئيس بل في صلاحيات الكونغرس.
في المقابل، يرى البيت الأبيض أن ما جرى ليس “رسماً” وإنما “شرط دخول” مشروع بموجب قانون الهجرة، تماماً مثل أي قيود أخرى تُفرض في حالات الأمن القومي. وقد سبقت هذه الخطوة إجراءات أخرى لترامب استهدفت إعادة هيكلة نظام الهجرة، أبرزها تقييد تأشيرات اللجوء، وتعليق برامج لمّ شمل محددة.
القضاء الأمريكي سيصبح ميدان المواجهة المقبلة. ففي حال قبلت المحاكم دعاوى الطعن، قد يتم تعليق العمل بالقرار أو الحد من نطاقه. لكن إلى حين صدور حكم قضائي، يبقى القرار نافذاً وملزماً للشركات والعمال على حد سواء.
التأثير على الدول المصدّرة للعمالة
الهند، التي تستحوذ على نحو 70% من تأشيرات H-1B سنوياً، تُعد المتضرر الأكبر. الحكومة الهندية أعربت عن “قلق بالغ”، فيما أصدرت شركات الاستشارات الكبرى مثل TCS وInfosys بيانات تحذّر من انعكاسات مالية مباشرة. وتوقعت تقارير مصرفية طالعها بقش أن تواجه هذه الشركات ارتفاعاً في تكاليف التشغيل أو خسارة عقود مع عملاء أمريكيين يعتمدون على توفيرها للمهندسين.
الصين، التي تخوض حرباً تجارية مع واشنطن، قد ترى في القرار محاولة جديدة لتقليص اختراق كفاءاتها للسوق الأمريكي. أما في الفلبين ودول أخرى من آسيا، فالأثر أقل حجماً لكنه لا يقل رمزية، حيث يُنظر إلى الولايات المتحدة كمقصد أساسي للهجرة المهنية.
حتى في دول مثل اليمن ومصر والأردن، حيث يسعى كثير من المهنيين إلى فرص عبر H-1B، سيصبح الحاجز المالي أكبر من أن يتحمله الأفراد أو الشركات الراعية، ما يعني انكماشاً أكبر في فرص الهجرة القانونية إلى السوق الأمريكي.
البدائل والخيارات أمام الكفاءات
السؤال المطروح الآن هو: ما البدائل المتاحة أمام الكفاءات غير الأمريكية؟ بعض الشركات بدأت بالفعل دراسة توسيع عملياتها في كندا، حيث سياسات الهجرة أكثر مرونة. تورونتو وفانكوفر قد تستقطبان جزءاً من تلك المواهب التي صُدّت عن الولايات المتحدة.
الاتحاد الأوروبي أيضاً قد يشكل وجهة جديدة، رغم التحديات البيروقراطية. ألمانيا مثلاً أطلقت قبل سنوات “البطاقة الزرقاء” لجذب الكفاءات، وهي الآن تستثمر في تسريع إجراءات منحها.
لكن الحقيقة أن الولايات المتحدة ستظل، رغم هذه القيود، السوق الأكثر جاذبية، لما توفره من موارد مالية ومراكز أبحاث وشركات عالمية. ولذلك، سيبقى الضغط قائماً على الشركات الأمريكية للعثور على حلول وسط، إما بتحملها الجزء الأكبر من الدفعة المالية أو عبر السعي لإعفاءات خاصة.
اقتصادياً، يعكس القرار رؤية ترامب القائمة على “إعادة الأمريكية إلى الداخل”، حيث تُقدَّم الحماية الاقتصادية على حساب الانفتاح العالمي. لكن خبراء الاقتصاد يحذرون من أن النتيجة قد تكون معاكسة: ارتفاع التكاليف، تراجع الابتكار، وتباطؤ النمو.
البعض يشبه هذا القرار بسياسات الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على البضائع الصينية عام 2018، والتي رفعت أسعار المستهلك الأمريكي ولم تُقلص العجز التجاري بشكل ملموس. واليوم، قد ينتهي الأمر بنفس النتيجة في سوق العمل: ارتفاع تكلفة الشركات، دون ضمان استيعاب العمال الأمريكيين للفجوة المهارية.
التقارير البحثية التي صدرت بعد القرار بيّنت أن أكثر من 40% من الشركات الأمريكية الكبرى ترى أن المبلغ المفروض “يهدد قدرتها على التوظيف” وفق متابعة بقش، بينما اعتبرت 30% من الشركات الناشئة أن استمرار العمل بالقرار لعام كامل سيجبرها على تقليص خططها الاستثمارية.
هناك ثلاثة سيناريوهات رئيسية للمستقبل القريب، الأول أن يصمد القرار طوال فترة الـ 12 شهراً المقررة، ويؤدي إلى تراجع ملحوظ في عدد طلبات H-1B، وهو ما سيعيد توزيع خريطة التوظيف عالمياً.
الثاني أن تُقبل الطعون القضائية ويُعلّق القرار جزئياً أو كلياً، ما قد يخفف من صدمة الأسواق. والثالث أن يُمدّد ترامب القرار لعام آخر، ليصبح سياسة شبه دائمة تفتح الباب أمام إعادة هيكلة كاملة لنظام هجرة الكفاءات.
أيّاً كان السيناريو، فإن النقاش حول هجرة العقول سيظل محتدماً، فالولايات المتحدة تجد نفسها اليوم أمام معادلة صعبة: كيف تحمي سوق العمل المحلي من المنافسة الأجنبية، دون أن تخسر في الوقت ذاته موقعها الريادي في اقتصاد المعرفة العالمي.
قرار فرض دفعة الـ 100 ألف دولار على تأشيرات H-1B لا يمكن قراءته بمعزل عن المشهد الجيوسياسي والاقتصادي العالمي. هو امتداد لسياسة حمائية تستهدف تعزيز صورة ترامب أمام قاعدته الانتخابية، لكنه في العمق اختبار لقدرة الأمريكية على موازنة المصالح القومية مع الحاجة إلى البقاء مركزاً لجذب العقول.
ما سيحدث خلال الأشهر المقبلة سيكون مؤشراً حاسماً، هل ستنجح الشركات في امتصاص الصدمة عبر تحمل التكلفة وإيجاد حلول قانونية؟ أم ستفتح هذه الخطوة الباب أمام منافسين عالميين مثل كندا وأوروبا لاستقطاب المواهب على حساب الأمريكية؟.
في النهاية، يبقى المؤكد أن القرار شكّل نقطة تحول كبرى في تاريخ الهجرة الاقتصادية الأمريكية. فهو ليس مجرد إجراء مالي، بل رسالة سياسية واضحة تقول للعالم، الدخول إلى الأمريكية لم يعد ممكناً إلا بثمن باهظ.