تجميد بنكي يهز سوق العملات المشفّرة: حين تقرر المصارف متى يُسمح للابتكار أن يعيش

الاقتصاد العالمي | بقش
لم يكن قرار أحد أكبر المصارف الاستثمارية في الولايات المتحدة بتجميد حسابات مصرفية مرتبطة بشركات تعمل في مجال العملات المستقرة إجراءً تقنياً معزولاً، بل إشارة صريحة إلى حدود القوة الحقيقية داخل النظام المالي العالمي. ففي اللحظة التي يتقاطع فيها الابتكار الرقمي مع البنية المصرفية التقليدية، تعود مراكز النفوذ القديمة لتفرض قواعدها بلا مواربة.
الخطوة كشفت فجوة متزايدة بين الخطاب السائد حول “تحرر المال” عبر الأصول الرقمية، وبين الواقع العملي الذي لا تزال فيه البنوك الكبرى تملك مفاتيح العبور إلى السيولة العالمية. فمهما بدت العملات المشفّرة عابرة للحدود، تبقى محاصَرة عند أول نقطة تماس مع النظام المصرفي الخاضع للقانون والعقوبات والرقابة السياسية.
ويأتي هذا التطور في توقيت بالغ الحساسية، إذ تتزايد التوقعات بأن عام 2026 سيكون مرحلة دمج واسع للعملات المشفّرة داخل النظام المالي المؤسسي، لا سيما في مجالات المدفوعات وتسوية المعاملات. غير أن التجميد الأخير يطرح سؤالاً جوهرياً: هل سيكون هذا الدمج على أساس شراكة متكافئة، أم على قاعدة إخضاع كامل لشروط البنوك؟
في جوهره، يعكس القرار صراعاً غير معلن بين سرعتين: سرعة الابتكار التي تدفع الشركات الناشئة إلى التوسع السريع في الأسواق الهشة تنظيمياً، وسرعة أبطأ لكنها أكثر قسوة، تتحرك بها المصارف عندما تشعر بأن المخاطر القانونية أو السياسية بدأت تتجاوز العائد المحتمل.
شركات ناشئة تحت ضغط الامتثال
بحسب ما أوردته منصة ذا إنفورميشن الأمريكية المتخصصة في الشؤون التقنية والمالية، فإن الحسابات التي جرى تجميدها تعود إلى شركتين ناشئتين هما بليند باي وكونتيغو، وهما شركتان تركزان نشاطهما على حلول العملات المستقرة في أسواق أمريكا اللاتينية. الشركتان حققتا نمواً سريعاً، لكن هذا النمو سبق قدرتهما على بناء بنية امتثال تتماشى مع المعايير المصرفية الأمريكية الصارمة.
لم ترتبط الشركتان مباشرة بالنظام المصرفي الأمريكي، بل اعتمدتا على شركة مدفوعات رقمية وسيطة تُدعى تشيكبوك، ما أتاح لهما وصولاً غير مباشر إلى الخدمات المصرفية داخل الولايات المتحدة. هذا النموذج، الشائع في قطاع التكنولوجيا المالية، بدا كحل عملي لتجاوز التعقيدات التنظيمية، لكنه في الواقع لم يعفِ الأطراف من المسؤولية القانونية.
المشكلة الجوهرية برزت عندما نفذت الشركتان معاملات مالية في دول تُصنّف عالية المخاطر من منظور العقوبات والامتثال، وعلى رأسها فنزويلا. في هذه اللحظة، لم يعد البنك ينظر إلى الشراكة من زاوية الابتكار أو النمو، بل من زاوية احتمالات التعرض لغرامات أو مساءلات تنظيمية.
قرار التجميد عكس تحوّلاً حاداً في تقييم المخاطر، حيث باتت السرعة في التوسع عبئاً بدلاً من كونها ميزة. فالعمل في بيئات قانونية رمادية قد يكون مغرياً لشركات ناشئة، لكنه خط أحمر بالنسبة لمصارف عالمية لا تتحمل تكلفة الخطأ.
نموذج أعمال يصطدم بجدار البنوك
إحدى النقاط التي زادت حساسية الملف، وفق التقرير، أن إحدى الشركتين كانت تروج لإمكانية تنفيذ المعاملات دون إخضاع المستخدمين لإجراءات تحقق صارمة من الهوية. هذا الطرح، الذي يمثل جزءاً من جاذبية العملات المشفّرة، يُنظر إليه مصرفياً باعتباره مخاطرة مباشرة تمس جوهر قواعد مكافحة غسل الأموال.
في المقابل، أقدمت الشركة الثانية على إيقاف خدماتها بشكل مفاجئ في عدد من الدول عالية المخاطر فور بدء التجميد، في محاولة متأخرة لاحتواء الضرر. هذا السلوك كشف هشاشة نماذج أعمال تعتمد على الوصول المصرفي أكثر مما تعتمد على استقلال فعلي في البنية المالية.
ما جرى يوضح أن الابتكار المالي لا يُقاس فقط بمرونة التكنولوجيا، بل بقدرة النموذج التجاري على الصمود أمام اختبارات الامتثال القاسية. فكلما توسعت العمليات العابرة للحدود، تضاعفت الحاجة إلى أنظمة رقابة داخلية مكلفة ومعقدة.
وفي غياب هذه الأنظمة، تصبح الشركات الناشئة عرضة لقرارات مفاجئة قد تشل نشاطها بالكامل، وهو ما يعكس اختلال ميزان القوة بين مصارف تمتلك الزمن والموارد، وشركات تسابق الوقت لإثبات جدواها.
هل هي حرب على العملات المشفّرة؟
حرص مصرف جيه بي مورغان تشيس على التأكيد أن التجميد لا يمثل موقفاً معادياً للعملات المستقرة كفئة أصول. فالمصرف لا يزال يتعامل مع جهات أخرى في المجال نفسه، وشارك في عمليات طرح عام لشركات إصدار عملات مستقرة خلال الفترة الأخيرة.
غير أن هذا التوضيح لا ينفي الرسالة الأساسية: القبول المصرفي ليس حقاً مكتسباً، بل امتياز مشروط. فالمصارف الكبرى ترحب بالابتكار طالما ظل منضبطاً ضمن أطرها القانونية، لكنها لا تتردد في إغلاق الصنبور فوراً عندما ترى أن المخاطر تجاوزت الحد المقبول.
هذا السلوك يعكس مقاربة انتقائية واضحة، حيث يتم فرز شركات العملات المشفّرة بين “صالحة للدمج” و“مرتفعة المخاطر”، دون اعتبار كبير لخطاب اللامركزية أو وعود التحرر من النظام التقليدي.
بمعنى آخر، لا تخوض البنوك حرباً مباشرة على العملات المشفّرة، لكنها تفرض واقعاً يجعل بقاءها مرهوناً بالامتثال الكامل، لا بالابتكار وحده.
2026: توسع مشروط لا ثورة مالية
في المقابل، يشير تقرير بحثي صادر عن بنك وادي السيليكون إلى أن عام 2026 قد يشهد توسعاً واسعاً في استخدام العملات المستقرة، خاصة في المدفوعات العابرة للحدود وتسوية المعاملات التجارية وإدارة خزائن الشركات الكبرى.
ويستند التقرير إلى بيانات تظهر ارتفاع استثمارات رأس المال المخاطر في شركات الأصول الرقمية خلال 2025، مع تركّز التمويل في عدد أقل من الشركات الأكثر نضجاً. هذا الاتجاه يعكس انتقال السوق من مرحلة التجريب الواسع إلى مرحلة الانتقاء المؤسسي.
لكن هذا التوسع، بحسب التقرير نفسه، لن يحدث في فراغ تنظيمي. فالتشدد في تطبيق قوانين مكافحة غسل الأموال والعقوبات الدولية سيظل عاملاً حاسماً في تحديد من يُسمح له بالنمو ومن يُقصى من النظام.
وبذلك، يبدو أن 2026 لن يكون عام تحرر العملات المشفّرة، بل عام إدماجها داخل النظام القائم بشروطه الصارمة، حيث تتحول من أداة تحدٍ إلى أداة مُنظمة ومُراقَبة.
ما يكشفه قرار التجميد المصرفي ليس حادثة منفردة، بل اختباراً عملياً لحدود القوة في النظام المالي العالمي. فالعملات المشفّرة قد تعيد تشكيل أدوات التداول، لكنها لم تُزِح بعد من يملك القرار النهائي بشأن تدفق الأموال.
العام المقبل قد يحمل توسعاً مؤسسياً واسعاً للأصول الرقمية، لكنه سيحمل أيضاً موجة فرز قاسية، تُقصى فيها النماذج التي تعجز عن التكيف مع متطلبات الامتثال الصارمة. في هذا السياق، يصبح الابتكار وحده غير كافٍ للبقاء.
وفي المحصلة، يتضح أن اللامركزية في عالم المال ما تزال فكرة مؤجلة، وأن الطريق إلى “النظام المالي الجديد” يمر، شاءت الشركات أم أبت، عبر بوابات المصارف التي لا تزال تمسك بمفاتيح اللعبة.


