تخصيص حوالي 8 مليار دولار لتوفير صواريخ دفاعية جديدة : تداعيات معارك البحر الأحمر تستمر

تقارير | بقش
في خطوة لافتة تعكس تصاعد أولويات الأمن العسكري، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في 31 يوليو 2025 عن منح عقود تسليح ضخمة بقيمة إجمالية تبلغ 7.8 مليار دولار، لشراء كميات هائلة من الذخائر الموجهة بدقة، وقد شملت العقود شركتي لوكهيد مارتن وRTX (رايثيون سابقاً)، بهدف تعزيز مخزونات الجيش الأمريكي من صواريخ الهجوم الأرضي والجو-جو، وذلك في إطار خطة متعددة السنوات تمتد حتى عام 2033.
يشمل العقد الأضخم شركة لوكهيد مارتن، بقيمة 4.3 مليار دولار، ويغطي خمس دفعات من صواريخ JASSM (Joint Air-to-Surface Standoff Missile) وأربع دفعات من صواريخ LRASM (Long Range Anti-Ship Missile). وتُوجه هذه الصواريخ لكل من سلاح الجو الأمريكي والبحرية، بالإضافة إلى عدد من الحلفاء مثل اليابان، فنلندا، هولندا، وبولندا.
وفي المقابل، وقّعت شركة RTX عقدًا بقيمة 3.5 مليار دولار لإنتاج صواريخ AMRAAM (Advanced Medium-Range Air-to-Air Missile) لعدة دول ضمن شراكة استراتيجية موسعة، من بينها المملكة المتحدة، أوكرانيا، إسرائيل، وتايوان. ويُعد هذا العقد الأضخم في تاريخ برنامج AMRAAM، ويعكس تحولات عميقة في تركيبة الإنفاق الدفاعي الأمريكي، الذي بات يركّز على تأمين الذخائر الحيوية طويلة الأمد.
يأتي هذا الإنفاق الهائل في وقتٍ تتعرض فيه الولايات المتحدة لضغوط أمنية متزايدة في البحر الأحمر، بفعل الهجمات المتصاعدة على سفن الشحن، والتي تنفذها قوات صنعاء باستخدام طائرات مسيّرة وصواريخ دقيقة، ضمن استراتيجية دعم غزة وفرض حظر بحري على الملاحة الإسرائيلية. وعلى الرغم من نشر الولايات المتحدة لمجموعات حاملات الطائرات واعتمادها على أنظمة الدفاع البحري، لم تنجح العمليات الأمريكية في وقف تلك الهجمات بشكل كامل.
أظهرت تقارير من معهد الدراسات الاستراتيجية الدولية (IISS) ومعهد ستوكهولم SIPRI أن فشل الولايات المتحدة في حماية الملاحة بشكل حاسم في البحر الأحمر دفع البنتاغون إلى تسريع شراء الأسلحة البحرية الدقيقة. ويعكس عقد LRASM تحديداً استجابة مباشرة لهذا التحدي، نظراً لكونه صاروخاً طويل المدى مصمماً لاستهداف السفن بدقة، ويشكل ركيزة لعمليات “ضرب من خارج نطاق الدفاعات”.
كما أن اعتماد الحلفاء الآسيويين مثل اليابان وفنلندا على هذه الصواريخ، يعزز مناصرة واشنطن لتحالفات الردع الإقليمي، في ظل مشهد جيوسياسي معقد تُشارك فيه قوى متعددة في إعادة تشكيل خرائط التأثير البحري.
أرقام الإنتاج تفضح ضيق القدرة الصناعية رغم المليارات
وفق وثائق سلاح الجو الأمريكي، من المتوقع أن تشمل خطة الإنتاج لعام 2025 تصنيع 450 صاروخًا من طراز JASSM و115 من طراز LRASM، على أن ترتفع الأرقام إلى 389 و118 صاروخاً على التوالي في عام 2026. وتُقدّر قدرة الإنتاج القصوى بـ860 صاروخ JASSM و240 LRASM سنوياً، وهي معدلات لا تزال محدودة مقارنة باحتياجات الحرب الممتدة ووتيرة الاستهلاك العالية في الجبهات المفتوحة مثل أوكرانيا وغزة.
أما في عقد AMRAAM، فتشير البيانات إلى أن الطلب في عام 2026 قد يصل إلى 1200 صاروخ سنوياً، وهو رقم يعكس محاولات تعويض الاستنزاف الحاصل في المخزونات الأمريكية بسبب المساعدات العسكرية المتكررة، خصوصاً لأوكرانيا.
رغم الأرقام الكبيرة، تُظهر تعليقات لجنة المخصصات في مجلس الشيوخ الأمريكي، أن وزارة الدفاع تأخرت لسنوات في تفعيل أقصى طاقتها الإنتاجية أو تقديم خطط طويلة الأمد لدعم الصناعات الدفاعية المحلية. وهو ما وصفه مشرعون أمريكيون بأنه “فشل استراتيجي”، خاصة في ظل غياب رؤية متكاملة لتوسيع قدرات الإنتاج ضمن سلاسل توريد مستقرة.
عقيدة “الاستجابة السريعة”: مناولة أزمة لا إدارة استراتيجية
أشار تحليل صادر عن مركز الأمن الأمريكي الجديد (CNAS) إلى أن الاعتماد على نظام الشراء متعدد السنوات هو محاولة لتجاوز العوائق البيروقراطية والتقليل من التكاليف على المدى الطويل. إلا أن الفجوة بين التمويل الفعلي والقدرة على التسليم بقيت واسعة، وهو ما عرقل استجابة فعالة للمتغيرات الميدانية العاجلة.
وقد خصص الكونغرس في يوليو 2025 نحو 1.3 مليار دولار لتعزيز إنتاج صواريخ LRASM، و525 مليون دولار لصواريخ AMRAAM، في محاولة لرفع المخزون و”التكيّف مع التحديات البحرية المستجدة”، بحسب مسودة ميزانية الدفاع لعام 2026.
ومع ذلك، يبرز سؤال محوري: هل هذا التمويل المتسارع قادر فعلاً على استيعاب الفشل المتكرر في البحر الأحمر؟ الواقع يشير إلى أن استراتيجية الردع الأمريكية انهارت أمام تكتيكات غير متماثلة تنفذها قوات صنعاء، وهو ما أجبر واشنطن على إعادة النظر في أولوياتها، سواء عبر نشر بطاريات دفاع إضافية أو الاستعانة بحلفاء إقليميين.
في ظل مواصلة الهجمات على السفن المرتبطة بإسرائيل، يُطرح تساؤل حول جدوى هذه الترسانات الجديدة في ردع قوى غير تقليدية تعتمد على تكتيكات مرنة. فالصواريخ الأمريكية فائقة التطور مثل JASSM وAMRAAM ليست مصممة أصلاً لصدّ طائرات مسيّرة منخفضة التكلفة أو قوارب سريعة في ممرات بحرية ضيقة.
ووفق دراسة حديثة صادرة عن مؤسسة RAND، فإن الردع التقليدي يُظهر محدودية واضحة أمام العمليات الفوضوية منخفضة الكلفة. إذ إن نجاح قوة مسلحة بإيقاف الملاحة في أحد أهم الممرات العالمية يُعتبر هزيمة غير مباشرة لمنظومة الردع الاستراتيجي التي بنتها واشنطن طيلة عقود.
كما أن عجز الولايات المتحدة عن تأمين مرور السفن الإسرائيلية عبر باب المندب، رغم نشرها أصولًا بحرية باهظة، يُشكل ضغطاً سياسياً داخلياً على إدارة البيت الأبيض، ويُضعف من ثقة الحلفاء في الالتزامات الأمريكية، خاصة في المناطق الحساسة كالمحيطين الهندي والهادئ.
تعكس العقود العسكرية الأمريكية الأخيرة مزيجاً من الهروب للأمام والاستجابة المتأخرة لأزمة شاملة في قدرة الردع. فبينما تُضخ مليارات الدولارات في صواريخ دقيقة ومتطورة، تتعرض المصالح الأمريكية لتهديدات مباشرة في البحر الأحمر، ويواجه النظام الدفاعي الأمريكي حالة من التآكل العملي.
وفي الوقت الذي تشتري فيه واشنطن آلاف الصواريخ لضمان التفوق التقني، تُواصل قوات صنعاء تنفيذ هجمات فعالة بتكلفة منخفضة جداً، مما يجعل الفجوة بين التفوق التسليحي والفعالية التشغيلية أوسع من أي وقت مضى.
وبينما ينتظر الأمريكيون صواريخهم الجديدة بحلول عام 2033، يظل البحر الأحمر ساحة مواجهة يومية تُكتب تفاصيلها بعيدًا عن المصانع والموازنات… بل في عباب البحر، حيث لا تُقاس الفاعلية بعدد الطلقات، بل بنتائجها على الأرض.