ترامب يعيد تشكيل قواعد اللعبة التجارية: أوروبا تتماسك وآسيا تتأقلم والعالم يترقب

الاقتصاد العالمي | بقش
في تصعيد غير مسبوق يعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مؤخراً فرض رسوم جمركية جديدة واسعة النطاق طالت منتجات من الاتحاد الأوروبي وآسيا وأوقعت تداعياتها على معظم الاقتصادات المتقدمة والناشئة، ضمن ما بات يُعرف بـ”الحرب التجارية الكبرى الثانية”.
ورغم الانتقادات التي طالت الاتفاقيات الأخيرة مع كل من الاتحاد الأوروبي واليابان، إلا أن قراءة معمقة للوقائع توحي بنتائج متباينة قد تجعل واشنطن تدفع الثمن الأكبر على المدى المتوسط.
في 28 يوليو، توصل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إلى اتفاق حُددت فيه الرسوم الأساسية على صادرات الاتحاد بنسبة 15%، وهي نسبة أدنى من الـ30% التي كان ترامب قد هدد بها. ورغم الانتقادات الأوروبية الواسعة التي وصفت الاتفاق بـ”الاستسلام الناعم”، تؤكد دراسات اقتصادية لجهات مثل بلومبيرغ ورويترز أن الكتلة الأوروبية، مقارنةً بصفقات مشابهة مثل صفقة اليابان، خرجت بتكلفة نسبية أقل وقد تحقق مكاسب تنافسية لاحقاً في ظل نظام التعريفة العالمي الجديد.
ووفقاً للتحليل ذاته، فإن الاتحاد الأوروبي تعهد باستثمارات قيمتها 600 مليار دولار في الولايات المتحدة وشراء سلع طاقة بقيمة 750 مليار دولار. غير أن هذه الالتزامات ليست تنازلات فعلية بقدر ما تعكس اتجاهات قائمة، إذ أظهرت البيانات أن شركات الاتحاد استثمرت أصلًا قرابة 605 مليارات دولار خلال السنوات الثلاث الماضية، كما أن الوفاء بتعهدات الطاقة يبدو غير مرجّح بالنظر إلى قدرات التوريد الأمريكية.
الولايات المتحدة… أكبر الخاسرين في الميزان التجاري الجديد؟
بحسب النموذج التجاري العالمي فإن التأثيرات المباشرة للرسوم الجديدة على الاقتصاد الأمريكي قد تكون أكثر حدّة من تأثيرها على الشركاء التجاريين. إذ يُتوقع أن يتراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي بمقدار 0.4 نقطة مئوية خلال 12 شهراً، مقابل تراجع أقل في الاتحاد الأوروبي يتراوح بين 0.2 إلى 0.3 نقطة مئوية. أما التضخم، فمن المرجح أن يرتفع بمعدل يتراوح بين 1 و1.8 نقطة مئوية في الولايات المتحدة، بينما لن يتجاوز 0.3 نقطة مئوية في أوروبا.
استراتيجية ترامب الحالية تقوم على فكرة الصدمة والتهديد لإجبار الشركاء على التنازل، لكنها تنطوي على مخاطر كبيرة على الاقتصاد الأمريكي نفسه، إذ ترفع التكاليف على المستهلكين والشركات، وتضغط على سلسلة الإمدادات العالمية.
لكن الاتحاد الأوروبي أظهر براعة تكتيكية في التفاوض، فقدّم ما يبدو ظاهرياً وكأنه تنازلات كبيرة، بينما في الواقع ضمن شروطاً مرنة قد تسمح له بكسب حصص سوقية جديدة في حال تراجع صادرات الصين والهند والبرازيل إلى الولايات المتحدة بسبب الرسوم الأعلى المفروضة عليها”.
رسوم أشباه الموصلات: “البقاء للأغنى”
في ساحة التكنولوجيا الدقيقة، أعلن ترامب اعتزامه فرض رسوم جمركية تصل إلى 100% على واردات أشباه الموصلات من الدول التي لا تنتج داخل الولايات المتحدة أو لم تلتزم ببناء مصانع أمريكية. وأُعفيت من هذا القرار شركات مثل سامسونغ، وتي إس إم سي، وإس كي هاينكس، نظراً لوجود منشآت إنتاج لها في الولايات المتحدة.
هذا التحول الاستراتيجي، يعكس سعي واشنطن لإعادة توطين الصناعات التكنولوجية الحرجة ضمن حدودها، مدفوعة بمخاوف أمن قومي وسباق الذكاء الصناعي. وقد تسارعت استجابة الشركات الكبرى، مثل آبل، التي رفعت استثماراتها المحلية إلى 600 مليار دولار خلال أربع سنوات.
لكن المفارقة أن هذا “التركيز على جذب الاستثمارات الكبرى يعمّق فجوة القوة داخل السوق العالمية، إذ إن الشركات العملاقة ستتمكن من تجنب التكاليف الجمركية، بينما تُقصى الشركات الأصغر والأقل قدرة على تمويل منشآت إنتاجية ضخمة في أمريكا، خاصة من دول جنوب شرق آسيا وأوروبا الشرقية”.
التأثير على سلاسل التوريد: إعادة التموضع الجغرافي
تشير النماذج الاقتصادية إلى أن أحد الأثر الجانبي الرئيسي لهذه الحرب التجارية سيكون تحوّل سلاسل التوريد العالمية. فمع ارتفاع الرسوم على الصين، وفيتنام، والبرازيل، والهند، قد يتجه المستوردون الأمريكيون نحو الشركاء ذوي الكلفة الأعلى ولكن الرسوم الأقل – مثل الاتحاد الأوروبي وكندا.
وتُظهر بيانات مؤشر مديري المشتريات أن الطلبيات الجديدة في قطاع التصنيع الأمريكي تراجعت بشكل ملحوظ منذ أبريل، بينما تسارعت في الاتحاد الأوروبي. وتُعد هذه الإشارة المبكرة على أن المستثمرين والمصنعين بدأوا فعلاً بإعادة تموضعهم الجغرافي، هربًا من التكاليف الجمركية المرتفعة.
وإلى جانب آليات التعريفة الصارمة، يظهر أن ترامب يحتفظ بـ”بطاقة الإعفاء” كورقة ضغط دبلوماسية. فقد أُعفيت كوريا الجنوبية من الرسوم على الرقائق، بينما غادرت رئيسة سويسرا واشنطن خالية الوفاض بعد فشل مفاوضات لتخفيض رسوم بنسبة 39% على صادراتها.
وفي ملف الأدوية، كان تهديد ترامب بفرض رسوم تصل إلى 250% صادماً لأستراليا، التي تعد الولايات المتحدة من أكبر أسواق صادراتها الدوائية. وقال وزير الصحة الأسترالي إن بلاده “لن تساوم على نظام دعم الأدوية الوطنية لإرضاء شركات الأدوية الأمريكية”، في تأكيد على تصاعد التوتر حتى مع الحلفاء التقليديين.
توضح جميع المؤشرات التي رصدها المرصد الاقتصادي بقش أن النظام التجاري الدولي يمر بمرحلة إعادة هيكلة شاملة، تقودها الولايات المتحدة من خلال استراتيجية قائمة على التعريفات، والضغوط السياسية، وتوطين الصناعات.
وقد تنجح بعض الدول الكبرى في التكيف أو حتى الاستفادة من هذا التحول، كما هو الحال في أوروبا وكوريا، لكن الاقتصادات الهشة والمصدّرة ستجد نفسها أمام خيارات محدودة في عالم تُحدد قواعده في واشنطن.
وفي حين لا تزال النتائج النهائية لهذه الحرب التجارية رهن الزمن، فإن الملامح الأولية تشير إلى واقع جديد سيكون فيه “البقاء للأغنى… والأسرع في التكيّف”.