تقارير
أخر الأخبار

ترامب يفاوض الدولة كما يفاوض الشركات… والإغلاق الحكومي يتحوّل إلى رهينة سياسية

تقارير | بقش

في بلدٍ يُقدَّم دائماً للعالم كنموذجٍ في “الاستقرار المؤسسي”، تعيش واشنطن اليوم أطول إغلاق حكومي منذ عقدين، حيث توقّفت مؤسسات، وجُمّدت الرواتب، وعلّقت آلاف المشاريع العامة في انتظار صفقةٍ سياسية لا يبدو أن أحداً يعرف متى ستُبرم.

الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المعروف بخطابه الصدامي، يربط أي لقاء مع قادة الحزب الديمقراطي بشرطٍ واحد: فتح البلاد أولاً، في ما يبدو أنه تكتيك لفرض الحوار على أرضه، لا على طاولة تفاوض متكافئة.

لكن خلف هذا الخطاب الوطني المتشدد، تكمن أزمة أعمق: انقسام مؤسسي حادّ يهدد بنزع الثقة من قدرة الولايات المتحدة على إدارة نفسها، تماماً كما أضعفتها خلافات ما بعد انتخابات 2024.

أما في الشارع الأمريكي، فقد بات الإغلاق يُترجم يومياً إلى فواتير مؤجلة، وتأمينات صحية معلّقة، وأسرٍ تحاول الصمود في مواجهة شللٍ إداري لا يملك أحدٌ مفتاح إنهائه.

قال ترامب للصحافيين من البيت الأبيض: “سألتقي بالديمقراطيين فقط عندما يوافقون على إعادة فتح البلاد” وفق اطلاع مرصد “بقش”. جملةٌ قصيرة لكنها تختصر منهجه السياسي منذ دخوله المشهد العام: لا مفاوضات إلا على طريقتي. فالرئيس الذي جاء من عالم العقارات والتسويق لا يزال يتعامل مع الدولة كأنها شركةٌ خاصة، وميزانيتها عقدٌ يمكن تعطيله حتى يقبل الطرف الآخر بشروطه.

وبينما يحاول الديمقراطيون الضغط من خلال تمديد الإعفاءات الضريبية لـ”أوباما كير”، يرد ترامب بالإغلاق الكامل، متجاهلاً أن ضحيته الأولى ليست خصومه في الكونغرس، بل ملايين الموظفين والعمال الذين يعتمدون على رواتبهم الحكومية الشهرية. المفارقة أن الرئيس، الذي يرفع شعار “أمريكا أولاً”، يجعل أمريكا الأخيرة في الأولويات حين تتحول المصلحة الوطنية إلى ورقة تفاوض شخصية.

خلاف التأمين الصحي… معركة العقيدة السياسية

تدور جذور الأزمة حول قانون الرعاية الصحية الميسّرة الذي أقره الرئيس الأسبق باراك أوباما عام 2010، والمعروف باسم “أوباما كير”. يريد الديمقراطيون تمديد الإعفاءات الضريبية المرتبطة به لحماية ملايين الأمريكيين من ارتفاع الأقساط مع نهاية العام، فيما يصر الجمهوريون على تأجيل النقاش حتى تمرير الميزانية المؤقتة.

هذا الخلاف، في ظاهره تقني، لكنه في عمقه خلاف أيديولوجي حول دور الدولة في حياة المواطن. فالجمهوريون وفق اطلاع بقش يرون أن دعم الرعاية الصحية يكرّس التبعية للدولة ويثقل الموازنة، بينما يعتبره الديمقراطيون الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية في دولة تُنفق تريليونات على الدفاع.

وفي غياب أرضية وسط، أصبح النظام الصحي الأمريكي نفسه رهينةً في معركة نفوذٍ حزبية لا تراعي حسابات الشارع ولا الواقع الاقتصادي المتأزم.

إغلاق حكومي… وشلل اقتصادي متدرّج

يدخل الإغلاق أسبوعه الرابع (منذ 01 أكتوبر)، فيما بدأت آثار الانكماش تتسلل ببطء إلى الاقتصاد الأمريكي.

تأخرت رواتب أكثر من 800 ألف موظف فيدرالي، وأُغلقت مئات المكاتب الخدمية، وتوقفت عقود في قطاعات النقل والبنية التحتية، فيما حذّر خبراء من أن استمرار الأزمة قد يُخفض النمو ربع نقطة مئوية في الربع الأخير من 2025.

ورغم ذلك، يواصل البيت الأبيض التقليل من حجم الخطر، مقدّماً الأزمة كـ”معركة ضرورية لإصلاح واشنطن الفاسدة”. لكن الأسواق لا تشارك هذا التفاؤل؛ إذ سجّلت مؤشرات الأسهم تراجعاً ملحوظاً منذ بدء الإغلاق، فيما أظهرت استطلاعات الرأي أن نصف الأمريكيين يحمّلون ترامب مسؤولية الأزمة، مقابل 35% فقط يلومون الديمقراطيين.

ويبدو أن شعار ترامب “أعيدوا فتح أمريكا” فقد بريقه عندما صار هو نفسه من يغلقها.

في مجلس الشيوخ، يملك الجمهوريون أغلبية ضئيلة تبلغ 53 مقعداً، لكنها غير كافية لتمرير أي قانون تمويلي دون دعم الديمقراطيين الذين يملكون أدوات التعطيل.

رفض الديمقراطيون مشروع التمويل المؤقت 11 مرة متتالية، معتبرين أنه يلتف على قضية الرعاية الصحية، بينما يدفع الجمهوريون باتجاه تمريره كخطوة أولى نحو إعادة تشغيل المؤسسات.

اللافت أن الحوار بين الطرفين تحوّل إلى تبادل بيانات إعلامية بدل التفاوض الفعلي، إذ لم يُعقد أي اجتماع جدي منذ اللقاء الأخير في 29 سبتمبر، والذي انتهى بمشهد ساخر حين نشر ترامب مقطعاً معدلاً بالذكاء الاصطناعي يسخر فيه من زعيمي المعارضة.

ومع غياب قنوات الثقة، بدا أن واشنطن لا تُدار بالحوار، بل بالإشارات الساخرة والتغريدات الغامضة، بينما تنتظر الدولة بأكملها مزاج رئيسها لتتحرك.

الإغلاق كسلاح انتخابي… لا كأزمة مؤقتة

يقرأ مراقبون تصرف ترامب على أنه اختبار مسبق للحملة الرئاسية المقبلة، إذ يسعى لتثبيت صورته كرجل صلب يواجه “الاشتراكيين الجدد” في الحزب الديمقراطي، ولو على حساب الاقتصاد الوطني.

البيت الأبيض، من جهته، يروّج أن الرئيس “لن يخضع للابتزاز السياسي”، في إشارة إلى ربط الإعفاءات الصحية بالتمويل الحكومي حسب قراءة بقش، لكن الحقيقة أن ترامب يستفيد من الأزمة لتوحيد قاعدته الجمهورية خلفه.

الديمقراطيون يدركون هذا البعد، لكنهم يفتقرون إلى أدوات الردّ القادرة على كسر الجمود، خصوصاً مع تعمّق الاستقطاب الإعلامي، حيث تُصوّر القنوات المحافظة الأزمة كـ”معركة بقاء”، فيما تصفها المنابر الليبرالية بأنها “رهان متهور على حساب الشعب”. وبين الروايتين، تبقى المؤسسات الفيدرالية رهينةً لصراعٍ لا يبدو أنه سينتهي قريباً.

وتُظهر أزمة الإغلاق الحالية أن الولايات المتحدة، رغم قوتها الاقتصادية والعسكرية، تعاني عطباً في آلية الحكم نفسها؛ فالديمقراطية التي تفترض التوازن بين السلطات، تحوّلت إلى نظام تعجيزي تُشلّ فيه الدولة عند أول خلاف حزبي.

ترامب لا يتراجع لأنه يرى في الأزمة اختباراً لقدرته على إخضاع الكونغرس، والديمقراطيون لا يلينون لأنهم يخشون الظهور بمظهر الضعف.

وهكذا، يظل المواطن الأمريكي هو الطرف الوحيد الذي يدفع الثمن، في حين تتبادل النخب السياسية الشعارات عن “حماية الديمقراطية”.

إنها ليست مجرد أزمة تمويل، بل صورة مكبّرة لعجز النموذج الأمريكي عن التوفيق بين السلطة والضمير، دولةٌ تغلق نفسها دفاعاً عن “مبادئها”، بينما تُدار بمنطق الصفقة التجارية ذاتها التي حملت ترامب إلى الحكم.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش