تريليونات تُضَخّ في سباق قد لا يُنتج عوائده.. ما هي فقاعة الذكاء الاصطناعي ولماذا يحذر منها كبار الاقتصاديين حول العالم؟

الاقتصاد العالمي | بقش
خلال العامين الأخيرين، أصبح الذكاء الاصطناعي الجيل الجديد العنوان الأبرز للثورة التقنية التي تراهن عليها الشركات والحكومات والمستثمرون باعتبارها القوة التي ستغيّر شكل الاقتصاد العالمي.
غير أن الزخم المتسارع، الذي يبلغ حدّ الهوس، ترافق معه سؤال جوهري بدأ يظهر في صلب النقاش الاقتصادي: هل هذه الاستثمارات التريليونية في الذكاء الاصطناعي قادرة فعلاً على تحقيق عوائد تضاهي حجم الأموال المصروفة، أم أننا أمام موجة تضخيم شبيهة بفقاعة الإنترنت في التسعينات؟.
هذا السؤال لم يعد مطروحاً على الهامش، بل أصبح أحد أكبر ملفات القلق في أسواق المال العالمية، خصوصاً في ظل تضاؤل المؤشرات على وجود عائدات حقيقية حتى اللحظة.
وتُظهر البيانات الراهنة التي يرصدها بقش أن الشركات الكبرى -وعلى رأسها مايكروسوفت، “ميتا”، “آبل”، “غوغل” (ألفابت)، وعملاق الرقائق “إنفيديا”- تضخ مستويات غير مسبوقة من الأموال في بناء مراكز البيانات، شبكات الحوسبة، وحدات الرسوميات، والنماذج اللغوية الضخمة.
لكن في المقابل، تشير دراسات أكاديمية وتقارير اقتصادية إلى أن أكثر من 95% من الشركات التي تبنّت حلول الذكاء الاصطناعي لم تُحقق أي مكاسب إنتاجية أو مالية تُذكر حتى الآن، وأن ما يجري هو سباق إنفاق ضخم تدفعه المخاوف من “التخلف” عن منافسين آخرين أكثر مما تدفعه عائدات حقيقية.
وفي الوقت عينه، ترتفع نبرة التحذيرات من المؤسسات المالية العالمية، مثل صندوق النقد الدولي، ومن خبراء الاقتصاد الكبار، مثل دارون عجم من “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا”، بأن الاستثمارات الجارية قد تكون مبالغًا فيها على نحو غير مسبوق، وأن العوائد المنشودة -إن ظهرت- قد تستغرق سنوات طويلة، أو قد لا تتحقق أصلاً على نطاق واسع.
هذه التحذيرات ليست تنظيراً أكاديمياً، بل تأتي متزامنة مع خطوات فعلية اتخذتها الشركات العملاقة، مثل قيام “مايكروسوفت” بإيقاف أو إعادة تقييم مشروعات لمراكز بيانات بقيمة تتجاوز المليار دولار. ومع تزايد التوقعات بأن حجم الإنفاق على الذكاء الاصطناعي قد يتجاوز ثلاثة تريليونات دولار خلال العقد المقبل، تتّسع فجوة المراجعات الواقعية بين ما يُنفَق وما يمكن أن يعود.
فبينما تصوّر روايات التسويق ثورة غير مسبوقة ستغيّر كل شيء، تشير الحسابات الاقتصادية الأكثر دقّة إلى احتمال أن تكون هذه الطفرة مجرد “فقاعة استثمارية” جديدة، لا تختلف كثيراً عن تلك التي ضربت الإنترنت قبل ثلاثة عقود. وفي هذا السياق تأتي قراءة هذا التقرير، الذي يحاول تفكيك الصورة المعقدة: استثمارات هائلة، وعائدات غائبة.
عوائد شبه معدومة… والفجوة تتسع
رغم أن الذكاء الاصطناعي أصبح كلمة السر في عالم التكنولوجيا، فإن معظم الشركات التي تبنّت تطبيقاته لم تحقق عائداً مالياً أو إنتاجياً حقيقياً. وتشير دراسة موسعة طالعها بقش من “معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا” إلى أن أكثر من 95% من الشركات التي أنفقت على أنظمة الذكاء الاصطناعي لم ترَ أي تحسن في أرباحها أو إنتاجيتها.
هذا الرقم الصادم أصبح مرجعاً في تقارير وسائل الإعلام الاقتصادية، كما أعاد الحديث عنه مؤسس مايكروسوفت بيل غيتس الذي أكد أن “أغلب الشركات تتجه إلى استثمارات قد لا تنتج شيئاً”.
هذه الفجوة ليست محصورة بالشركات الصغيرة أو المتوسطة، بل تُلاحظ أيضاً لدى المؤسسات الكبرى التي دخلت سباق الذكاء الاصطناعي دون استراتيجية واضحة للعائد المتوقع. تقارير اقتصادية عدة تشير إلى أن انتشار استخدام الذكاء الاصطناعي في الشركات لا يساوي بالضرورة زيادة في الإنتاجية؛ فالكثير من التطبيقات التي يتم تبنيها تحت شعار “الأتمتة” لا تعزز جودة العمل بل تُنقصها، بسبب أخطاء النماذج أو ضعف ملاءمتها للمهام المتخصصة.
وتتركز أبرز الإشكالات في كون سوق الذكاء الاصطناعي لا يزال مبنياً على التجربة والاختبار أكثر من كونه مبنياً على نتائج عملية مثبتة.
الإنفاق على البنية التحتية -من إنشاء مراكز بيانات ضخمة إلى شراء رقاقات متقدمة من “إنفيديا”- لا يُترجم حتى الآن إلى منتجات مربحة أو إلى أسواق واقعية يمكن التعويل عليها. فأغلب الشركات تُجرّب وتُخزّن البيانات وتختبر نماذج اللغة الكبيرة، بينما يبقى سؤال العائد المالي الحقيقي معلّقاً.
وترى عدة تقارير مالية أن حالة “التهيّج الاستثماري” التي يعيشها القطاع تُشبه إلى حد كبير موجة الإنترنت قبل عقدين، حين اندفعت الشركات للاحتفاظ بحصة مبكرة من السوق، قبل أن يثبت لاحقاً أن أغلب هذه الشركات لم تمتلك نموذجاً ربحياً حقيقياً.
الفارق اليوم أن تكلفة الرهان أعلى بكثير، وأن مستوى الإنفاق على الذكاء الاصطناعي يتجاوز حدودًا لم تُسجّل في أي موجة تكنولوجية سابقة.
تحذيرات عالمية من فقاعة استثمارية
بدأت أصوات المؤسسات المالية الكبرى ترتفع بشكل واضح، محذّرة من أن ما يجري ليس سباقاً تقنياً طبيعياً، بل موجة مضاربة مُكبّرة. صندوق النقد الدولي حذّر عبر كبير اقتصادييه بيار-أوليفييه غورينشاس من أن طفرة الاستثمار في الذكاء الاصطناعي “قد تتطور إلى فقاعة حقيقية”، مشيراً إلى أن الإنفاق اليوم يتجاوز بكثير ما يمكن تبريره بالعوائد المتوقعة، وأن التشابه مع فقاعة الدوت كوم بات مقلقاً.
على المنوال ذاته، حذّر رئيس مجموعة “علي بابا”، جو تساي، من “فقاعة مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي”، مشيراً إلى أن شركات التكنولوجيا العملاقة تنفق ما يقارب 320 مليار دولار في عام واحد فقط على توسيع بنيتها التحتية للذكاء الاصطناعي. غير أن هذا الإنفاق يجري -كما يقول- في غياب عقود حقيقية أو طلب فعلي يُبرر هذه القفزة، وهو ما قد يترك الشركات أمام طاقة حاسوبية تفوق احتياجات السوق الفعلية.
حتى الشركات التي أدت دور اللاعب الرئيسي في السباق بدأت تتراجع، مثل “مايكروسوفت” التي أعلنت عن إيقاف مشروع لمركز بيانات بقيمة مليار دولار وإعادة تقييم جدوى مشاريع مشابهة. هذا التراجع يأتي في وقت حساس، حيث كانت الشركة تُعتبر المحرّك الأساسي للاستثمار في نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة بالشراكة مع “أوبن إيه آي”.
ولا تقتصر التحذيرات على النخب الاقتصادية أو التكنولوجية؛ فالأسواق نفسها بدأت تُظهر علامات القلق. موجات البيع المكثف للأسهم التقنية في الأسابيع الماضية تعكس احتمال تغيّر المزاج العام للمستثمرين، الذين بدأوا يشكّون في مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على تحقيق العوائد الموعودة. هذه التحولات لا تأتي صدفة، بل نتيجة قناعة متزايدة بأن القطاع يموَّل بصورة أكبر مما يمكن أن يقدمه اقتصاديًا على المدى القريب والمتوسط.
الحسابات الحقيقية… أرقام العائد المطلوب تبدو غير واقعية
تظهر الحسابات المالية الصادرة عن البنوك الاستثمارية أن المطلوب من الذكاء الاصطناعي لتحقيق الحد الأدنى من العائد على الإنفاق يبدو فوق طاقة السوق. تقرير لبنك “جي بي مورغان” يرصد أن القطاع يحتاج إلى تحقيق إيرادات سنوية تبلغ 650 مليار دولار خلال السنوات القادمة حتى يتمكن المستثمرون من استرداد تكلفة البنية التحتية للذكاء الاصطناعي بعائد يقترب من 10%. الرقم يكشف حجم الفجوة الحقيقية بين الطموح والواقع، إذ إن الإيرادات الحالية ليست سوى جزء بسيط من هذا المستوى.
ولتبسيط الفكرة للجمهور، يشرح التقرير أن هذا يعني -نظرياً- أن على كل مستخدم “آيفون” في العالم أن يدفع شهرياً نحو 35 دولاراً إضافياً مقابل خدمات الذكاء الاصطناعي، أو أن يدفع كل مشترك في “نتفليكس” مبلغاً سنوياً يفوق 180 دولاراً فوق اشتراكه الأساسي، وهذا النوع من التحليل يوضح أن التوقعات الحالية مبنية على افتراضات بعيدة جداً عن القابلية التجارية الواقعية.
وتشير تقارير أخرى إلى أن القيمة السوقية للشركات المرتبطة بالذكاء الاصطناعي -والتي تجاوزت في بعضها حاجز الخمسة تريليونات دولار كما في حالة “إنفيديا”- تستند إلى توقعات مستقبلية لم تُختبر بعد، بدلاً من أرباح فعلية.
هذا النوع من التقييمات يعكس حالة “إيمان استثماري” أكثر مما يعكس عائداً حقيقياً، وبذلك، يصبح السؤال: هل يمكن لنموذج لم يبرهن نفسه اقتصادياً أن يبرّر تقييمات بهذا الحجم؟.
أما على صعيد مراكز البيانات، فتتوقع تقارير عالمية أن يصل الإنفاق عليها إلى 3 تريليونات دولار خلال العقد المقبل وفق اطلاع بقش. ورغم أن هذا الرقم يُصوّر على أنه “استثمار في المستقبل”، فإن أغلب الخبراء يرون أن الطلب الفعلي على هذه البنية التحتية ليس واضحاً بما يكفي، وأن الفجوة بين العرض والطلب قد تجعل جزءاً كبيراً من هذه الأموال غير قابلة للاسترداد.
الإنتاجية… الحلقة المفقودة التي قد تقلب المشهد
تُعدّ الإنتاجية العامل الحاسم في تقييم جدوى أي ثورة تكنولوجية. لكن الدراسات الاقتصادية الحديثة تُظهر أن الذكاء الاصطناعي لم يحقق حتى الآن أي أثر واضح في رفع الإنتاجية على مستوى الاقتصاد الكلي.
هذا ما يؤكده الاقتصادي المعروف دارون عجم أوغلو، الذي يشير إلى أن الكثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي تندرج تحت ما يسميه “الأتمتة متوسطة القيمة”، أي إنها تستبدل الموظفين دون أن تقدم إنتاجية أعلى، ما يخلق تكلفة إضافية دون تحسين فعلي في المخرجات.
ويقول عجم أوغلو إن جزءاً كبيراً من الاستثمارات المتسارعة يجري في مشاريع لا تمتلك بالفعل تأثيراً كبيراً على الإنتاجية، وإن التركيز على استبدال البشر عبر الأدوات الآلية قد يُنتج بيئة متوترة، لا تزيد فيها جودة العمل ولا كفاءة النظام، وهذا النوع من الاستخدام لا يؤدي إلى قيمة اقتصادية، بل قد يجرّ الشركات إلى تكاليف أعلى دون مردود ملموس.
وفي الوقت نفسه، تبدو المبالغ المصروفة على تدريب النماذج اللغوية الضخمة هائلة بالمقارنة مع الفائدة العملية التي توفرها. فعلى الرغم من التحسن الملحوظ في قدرات هذه النماذج، فإن معظم الشركات تستخدمها اليوم في مهام بسيطة نسبياً مثل تلخيص النصوص أو إنتاج المسودات، وهي مهام لا تخلق قيمة مالية حقيقية توازي حجم الاستثمار.
وتعكس التباطؤات الأخيرة في الاقتصاد العالمي مخاوف من أن الذكاء الاصطناعي قد لا يمتلك القدرة على دفع موجة إنتاجية جديدة كما فعلت الكهرباء أو الإنترنت سابقاً. فحتى الآن، لا يوجد دليل على أن الذكاء الاصطناعي -رغم قدراته الهائلة- أحدث ثورة إنتاجية بنطاق واسع. هذه الفجوة بين السردية المثالية والواقع الاقتصادي تمثل أحد أكبر أسباب التشكيك في استدامة العوائد المستقبلية.
تُظهر القراءة الدقيقة للبيانات والاتجاهات أن الذكاء الاصطناعي، رغم كونه ابتكاراً حقيقياً ومؤثراً، لا يقدم حتى اللحظة عوائد تبرّر الاستثمارات الهائلة التي تُضَخ فيه. ومع أن القطاع يمتلك إمكانات كبيرة على المدى الطويل، فإن حجم الإنفاق الحالي يتجاوز بكثير حدود المنطق الاقتصادي، خصوصاً في ظل غياب نماذج ربح واضحة وانتشار مشاريع ضخمة بلا ضمانات طلب مستقبلي.
ومع تراكم التحذيرات الصادرة عن المؤسسات المالية والاقتصاديين البارزين، تبدو الصورة أكثر ميلاً إلى سيناريو “الطلب الأقل من المتوقع”، وهو سيناريو قد يجعل جزءاً واسعاً من الاستثمارات غير قابل للاسترداد. ومع أن التقنيات اليوم أكثر تطوراً مما كانت عليه في فقاعة الإنترنت، فإن التشابهات البنيوية -من حيث الاندفاع الجماعي، غياب العائد، والتقييمات المبالغ فيها- تجعل المخاطر حاضرة بقوة.
في نهاية المطاف، لا يمكن تجاهل أن الذكاء الاصطناعي سيظل عنصراً رئيسياً في المستقبل الاقتصادي، لكن السؤال الحقيقي ليس حول قدرة التقنية على التطور، بل حول قدرة الشركات والمستثمرين على تحويل هذا التطور إلى عائد مالي فعلي، وحتى يحدث ذلك، ستبقى الفجوة بين الإنفاق والعائد هي القصة التي يجب مراقبتها عن كثب… لأنها قد تكون عنوان الفقاعة القادمة.


