تفاصيل صادمة.. مسؤول حكومي يكشف وجود مليارات خارج النظام المصرفي ويكشف سبب أزمة السيولة في عدن

الاقتصاد اليمني | بقش
في ظل اقتصاد هشّ وبيئة سياسية وأمنية معقدة، تواجه حكومة عدن مساراً صعباً لتثبيت برنامج الإصلاحات الاقتصادية الذي أطلقته خلال الفترة الماضية. رغم أن الإجراءات الأخيرة أحدثت نقلة في تنظيم السوق النقدية وضبط الاستيراد، فإن حجم المعوقات والمشكلات القائمة يكشف عمق الأزمة التي تضرب مفاصل المالية العامة والنظام المصرفي، وسط فقدان أكثر من 70% من الموارد العامة وتزايد الفجوة بين احتياجات البلاد من النقد الأجنبي وما يتوافر فعلياً.
بحسب مقابلة صحفية للمستشار الاقتصادي في رئاسة الجمهورية “فارس النجار”، اطلع عليها المرصد الاقتصادي بقش، فإن الحكومة والبنك المركزي في عدن يواجهان شبكة من التحديات المتشابكة، تبدأ من أزمة السيولة وتراجع الإيرادات، مروراً بضعف الدورة النقدية داخل الاقتصاد، وصولاً إلى معوقات فنية وتشريعية تهدد استدامة الإصلاحات.
من أبرز مظاهر الأزمة، وفق النجار، أن الكتلة النقدية المتداولة في السوق وصلت حتى نهاية مارس 2025 إلى 3.4 تريليونات ريال يمني. لكن هذه السيولة الضخمة ليست في الجهاز المصرفي، بل محتجزة لدى كبرى شبكات الصرافة والمضاربين، إضافة إلى مواطنين يحتفظون بالنقد بدافع الخوف وانعدام الثقة، ما خلق انطباعاً واسعاً بوجود شح نقدي حاد.
أمام هذه الحالة، اختار بنك عدن المركزي تجنّب اللجوء إلى التمويل التضخمي عبر السحب على المكشوف أو استخدام احتياطيات البنوك لصرف الرواتب، خوفاً من انهيار الجهود الإصلاحية. وبدلاً من ذلك، استخدم أدوات الدين العام المحلي لامتصاص السيولة وتمويل الموازنة. هذا القرار، رغم كلفته، جنّب السوق موجة جديدة من تدهور سعر الصرف.
ويقدّر النجار أن الدولة فقدت أكثر من 70% من مواردها العامة، بما يعادل 1.6 مليار دولار، نتيجة توقف صادرات النفط الخام. بالتوازي، ألزم البنك المركزي البنوك والصرافين بتوريد فوائض النقد الأجنبي وتسليمها بالريال، وتكفّل بشرائها لتغطية تكاليف الاستيراد، في خطوة تهدف إلى تعزيز التعامل بالعملة المحلية وتقليل الطلب المفتعل على الدولار.
اللجنة الوطنية لتنظيم وتمويل الواردات باتت الجهة المخوّلة حصراً بعمليات المصارفة لتغطية احتياجات المستوردين، وهو ما مثّل خطوة حاسمة لضبط التدفقات النقدية. وفي حال حدوث أي فجوة في السيولة، يتعهّد البنك المركزي بالتدخل المباشر.
سوق غير منضبط… شبكات مضاربة وتهريب تلتف على الإصلاحات
أوضح النجار أن جزءاً مهماً من الإجراءات الأخيرة تمثّل في إلزام المعاملات المحلية بالريال بدلاً من العملات الأجنبية، وتتبع شبكات المضاربة ومعاقبتها، إضافة إلى تنظيم صرف العملات. هذه الخطوات حدّت من الطلب غير الاستيرادي على الدولار، لكنها لم تقضِ على المشكلة بالكامل، نظراً لبنية السوق الهشة.
حسب اطلاع المرصد الاقتصادي بقش، فإن استمرار وجود قنوات غير رسمية للمضاربة، والتفاف بعض التجار عبر الصرافين أو الحسابات الوسيطة أو الفواتير المزورة، يضعف من فاعلية الإجراءات الرسمية. النجار دعا إلى تجريم هذه الممارسات وسحب تراخيص الجهات المتورطة وتحويلها إلى النيابة باعتبارها جرائم اقتصادية.
كما شدد على ضرورة إعادة تشغيل الدورة النقدية داخل الاقتصاد، من خلال تفعيل الخزانة العامة، وتوريد جميع الإيرادات إلى الدولة، وصرف الرواتب والمدفوعات الحكومية عبر البنوك، وخفض كلفة التحويلات، والاتجاه نحو المدفوعات الرقمية. فالاستقرار النقدي، حسب تعبيره، لن يصمد إذا ظل الريال خارج البنوك.
وفي جانب آخر، حذر النجار من أن تشديد الرقابة على الاستيراد قد يشجع عمليات التهريب ما لم تتكامل جهود الأجهزة التنفيذية والرقابية. ودعا وزارة الصناعة والتجارة إلى إصدار نشرات سعرية أسبوعية للسلع الأساسية، ومراجعة هوامش الربح وربطها بفواتير الاستيراد، مؤكداً أن قانون التجارة الداخلية لعام 2006 يمنح الحكومة صلاحية تحديد هذه الهوامش.
عجز متفاقم… تحرير الدولار الجمركي على الطاولة
فيما يتعلق بالموازنة العامة، كشف النجار أن العجز المالي ارتفع بشكل كبير بعد خسارة عائدات النفط، التي كانت تمثل نحو 70% من موارد الدولة. هذا العجز يفرض على الحكومة المضي في إصلاحات إضافية، منها تحرير سعر الدولار الجمركي، الذي يعتبر بوضعه الحالي غير منطقي ويخدم رجال الأعمال فقط دون أن يستفيد منه المواطن.
النجار أكد أن استمرار تحسن سعر صرف العملة الوطنية واستقرار الأسعار سيدعمان هذا التوجه، رغم المخاوف من تأثيره على تكاليف السلع والخدمات. في السابق، بلغت الإيرادات الضريبية والجمركية نحو تريليون ريال، لكنها تراجعت إلى 600 مليار ريال تقريباً بعد فتح ميناء الحديدة، وهو ما قلّص العائدات إلى النصف تقريباً.
الوضع الحالي للميناء، الذي يعاني تراجعاً في قدراته التشغيلية واحتمالات الإغلاق، يزيد من تعقيد معادلة الإيرادات. وحسب اطلاع بقش، تتجه الحكومة إلى تعزيز الاستيراد عبر المناطق التي تسيطر عليها، وتثبيت استقرار سعر الصرف وأسعار السلع، تمهيداً لتحرير الدولار الجمركي ورفع كفاءة تحصيل الإيرادات.
ووفق تقديرات البنك المركزي وصندوق النقد الدولي، تتراوح فاتورة الواردات اليمنية بين 11.5 و14 مليار دولار سنوياً، في حين لا يتجاوز ما تحصل عليه البلاد من النقد الأجنبي 8 مليارات دولار، معظمها من تحويلات المغتربين (نحو 40%)، إضافة إلى صادرات غير نفطية ومساعدات خارجية. في فترة تصدير النفط، كانت الفجوة تبلغ 2.2 مليار دولار، لكنها اتسعت إلى 4.4 مليارات دولار بعد توقف التصدير، ما شكّل ضغطاً كبيراً على سعر الصرف.
النجار أوضح أن إصلاح منظومة الاستيراد كان حتى الآن الخطوة الأهم، إذ ساهمت الإجراءات في تحسن سعر صرف الريال بنسبة 44%. لكنه شدد على أن هذا التحسن لا يكفي لضمان الاستقرار النقدي ما لم يتم سد الفجوة التمويلية عبر دعم خارجي.
الاستقرار الاقتصادي ضروري لكسب ثقة الدول المانحة والمؤسسات المالية الدولية. النجار لفت إلى أن الانتقال من الاعتماد على الصادرات النفطية إلى غير النفطية يحتاج إلى وقت، في ظل صراعات سياسية واقتصاد هشّ. لذلك، ترى الحكومة أن بناء علاقة ثقة مع المانحين، وتوظيف المساعدات بشكل فعّال في الزراعة والبنية التحتية، أمر أساسي.
وأشار إلى مؤتمر مرتقب تستضيفه الأمانة العامة لدول مجلس التعاون الخليجي حول الأمن الغذائي في اليمن، تطمح الحكومة من خلاله إلى الحصول على 2.4 مليار دولار لدعم مشاريع الأمن الغذائي. كما تحدث عن جهود متقدمة للحصول على منحة أو وديعة مالية لتغطية الالتزامات الأساسية.
أبرز المعوقات، بحسب النجار، تكمن في البيئة المعقدة التي تعمل فيها الحكومة، حيث تتعدد مراكز القوى وتضعف المؤسسات. هذا الواقع يجعل مسار الإصلاحات شاقاً وصعباً، ويضع أي خلافات بين الحكومة والبنك المركزي تحت المجهر. وأكد أن الاختلاف في وجهات النظر أمر طبيعي ويُعالج عبر الأطر المؤسسية، لكنه حذّر من استغلال هذه التباينات لبث الشائعات التي تضر بالثقة.
الانهيارات السابقة في سعر صرف العملة الوطنية أدت إلى تدهور القوة الشرائية للمواطنين وتزايد معدلات الفقر، حيث يحتاج 21 مليون يمني إلى مساعدات عاجلة، ويعيش 17 مليوناً في المستوى الثالث من انعدام الأمن الغذائي، بينهم 6 ملايين يقتاتون على وجبة واحدة يومياً، وفق بيانات برنامج الغذاء العالمي. هذه الأوضاع رفعت من وعي القوى السياسية بأهمية الاستمرار في الإصلاحات وعدم التراجع.
تواجه حكومة عدن اليوم مفترقاً حاسماً بين ترسيخ ما تحقق من إصلاحات أو الانزلاق مجدداً إلى دائرة الانهيار النقدي والمالي. فنجاح الخطوات الحالية لا يعتمد فقط على أدوات البنك المركزي أو القرارات الفنية، بل على قدرة الحكومة على توحيد الجبهة المؤسسية، وكسر هيمنة شبكات المضاربة، وضمان تدفق الموارد إلى الخزانة العامة.
في المقابل، يبقى الدعم الدولي عاملاً محورياً لردم الفجوة التمويلية وتثبيت الاستقرار النقدي. وفي ظل هذه المعادلة الدقيقة، سيكون أي تردد أو تفكك داخلي بمثابة إشارة سلبية قد تعيد السوق إلى نقطة الصفر.