الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

حصار النفط و”شيفرون” في قلب العاصفة.. كيف يهدد تصعيد ترامب شريان فنزويلا الاقتصادي؟

الاقتصاد العالمي | بقش

تتكشف صورة مركّبة ومعقّدة في ملف فنزويلا النفطي والسياسي، حيث يتقاطع التصعيد الأمريكي غير المسبوق مع هشاشة الاقتصاد الفنزويلي الذي طحنته العقوبات الأمريكية بالأساس، ومع رهانات شركات الطاقة الكبرى، وعلى رأسها “شيفرون” الأمريكية.

وتعتمد فنزويلا على النفط اعتماداً شبه مطلق، إذ تشكّل مبيعاته أكثر من 95% من إيراداتها الخارجية، وتقوم عليه الغالبية الساحقة من ميزانيتها العامة.

ووفق بيانات اطلع عليها مرصد “بقش” من شركة النفط الحكومية الفنزويلية (PDVSA)، بلغت المبيعات النفطية المفوترة نحو 1.3 مليار دولار شهرياً خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2025، وهو رقم يكاد يعادل قيمة الواردات السلعية للبلاد، ما يعني أن أي تعطيل في الصادرات النفطية ينعكس فوراً على قدرة الدولة على تمويل الغذاء والدواء والوقود، وعلى الوفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية.

ورغم الإعلان عن احتياطيات أجنبية تقدَّر بنحو 13 مليار دولار حتى نوفمبر، إلا أن تقارير لوكالة “بلومبيرغ” تشير إلى أن ما يصل إلى 90% من هذه الاحتياطيات غير سائل أو غير متاح للنظام، ما يضع فنزويلا أمام سيناريو انهيار الواردات خلال أسابيع قليلة إذا ما جرى شلّ صادرات النفط فعلياً.

من العقوبات إلى الحَجْر البحري

الخطوة التي أقدم عليها ترامب تمثل نقلة نوعية من سياسة العقوبات التقليدية إلى ما يشبه “الحَجْر البحري” الموجّه وفق اطلاع بقش على بلومبيرغ، فالإجراء يستهدف ناقلات النفط الخاضعة للعقوبات التي تدخل وتخرج من فنزويلا، مع تهديد بفرض عقوبات سريعة على أي ناقلة تحاول نقل النفط الفنزويلي خارج نطاق الاستثناءات المحدودة، لا سيما تلك الممنوحة لشركة “شيفرون”.

وجاء هذا التحرك بعد احتجاز ناقلة النفط “سكيبر” في 10 ديسمبر في المياه الدولية، وهو ما بث رسالة ردع إلى “أسطول الظل” العالمي الذي اعتمدت عليه فنزويلا منذ 2019 للالتفاف على العقوبات.

وظهر الأثر فوراً، إذ غيّرت أربع ناقلات عملاقة مسارها بعيداً عن فنزويلا خلال أيام، بينها ناقلات غير مدرجة على قوائم العقوبات الأمريكية، ورغم أن النفط الفنزويلي لا يمثل سوى نحو 1% من الإنتاج العالمي، فإن هذه الخطوة رفعت أسعار خام “برنت” بنحو 2% عقب الإعلان، وإن ظلت الأسعار قريبة من أدنى مستوياتها منذ عام 2021، ما يعكس قناعة الإدارة الأمريكية بأن وفرة المعروض العالمي تقلل من المخاطر السعرية لخطوتها.

الفارق القانوني بين الحصار والحجر

من الناحية القانونية، يُعد الحصار البحري الكامل عملاً حربياً، لكن ما أعلنه ترامب يستهدف فئة محدودة من السفن، ما يجعله أقرب إلى “حجر” بحري غير محكم، وهذا التمييز يسمح لواشنطن بالضغط القصوى دون إعلان حرب صريحة، لكنه لا يلغي مخاطر التصعيد.

فالتنفيذ المرجّح للحجر يعتمد على وجود بحري أمريكي فعّال في البحر الكاريبي، مدعوم بأجهزة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وصور الأقمار الاصطناعية، مع تركيز ضيق على ناقلات النفط الكبيرة لتقليل العبء مقارنة بحصار شامل.

ومع ذلك، قد يتحول هذا الحجر إلى واقع أوسع، إذ تختار السفن التجارية تجنب المنطقة، فيما تبقى حركة الطيران التجاري فوق فنزويلا متدنية أصلاً بسبب تهديدات سابقة بإغلاق المجال الجوي.

ويُذكر أنه في عام 1902 فرضت بريطانيا وإيطاليا وألمانيا حصاراً بحرياً على فنزويلا، ولم تتدخل الولايات المتحدة آنذاك لاعتقادها أن “مبدأ مونرو” ينطبق فقط على الاستيلاء على الأراضي. واليوم، يعود هذا المبدأ ليشكّل جزءاً من رؤية ترامب، لكن بصيغة أكثر هجومية.

تصنيف مادورو “منظمة إرهابية أجنبية”

الخطوة الأخطر ربما لا تكمن في الحجر نفسه، بل في تصنيف ترامب لنظام نيكولاس مادورو “منظمة إرهابية أجنبية”، فهذا التصنيف حسب بلومبيرغ يتجاوز العقوبات الاقتصادية إلى فتح الباب أمام ملاحقات جنائية أمريكية لأي فرد أو كيان يقدّم “دعماً مادياً” للنظام، بتعريف واسع يشمل سداد فواتير متأخرة أو استمرار أنشطة تشغيلية.

هذا يعني عملياً أن الديون المستحقة لفنزويلا أو المدفوعات المتوقعة قد تتأخر أو تُلغى، وأن حتى المدفوعات العينية بالنفط، أو أعمال صيانة البنية التحتية النفطية، قد تُعتبر دعماً مادياً، وهو ما يضع شركات النفط الأجنبية، وعلى رأسها “شيفرون”، في منطقة رمادية قانونياً وسياسياً.

“شيفرون” اللاعب الاستثنائي

ووسط هذا المشهد، تبرز شركة “شيفرون” كحالة فريدة، فهي شركة النفط العالمية الوحيدة التي لا تزال تملك وصولاً مباشراً إلى أكبر احتياطي نفطي معروف في العالم، وحسب بيانات جمعها “بقش” تنتج شيفرون نحو 200 ألف برميل يومياً من مشاريع مشتركة مع “PDVSA”، وتصدّر حصتها إلى مصافي ساحل الخليج الأمريكي المهيأة لمعالجة الخام الثقيل الفنزويلي.

واعتباراً من يوم الخميس الذي تلا تصنيف مادورو “منظمة إرهابية أجنبية”، كانت “شيفرون” تستعد لتصدير مليون برميل من النفط الخام، في إشارة إلى تمسّكها بالاستمرار رغم المخاطر.

ويرى خبراء نقلت عنهم بلومبيرغ، مثل فرانسيسكو مونالدي من جامعة رايس، أن الشركة الأمريكية في “موقع استراتيجي قوي في أي سيناريو محتمل تقريباً”، سواء أفضى التصعيد إلى تغيير النظام أو إلى صفقة سياسية جديدة.

لكن هذا الموقع ينطوي على مخاطر جسيمة، تتراوح بين سلامة الموظفين، واحتمال استبعاد الشركة بقرار من مادورو أو من ترامب، وهو مصير عرفته شركات كبرى مثل “إكسون موبيل” و”كونوكوفيليبس” التي غادرت البلاد بعد سياسات التأميم في عهد هوغو تشافيز.

جذور الرهان طويل الأجل

رهان “شيفرون” على فنزويلا ليس وليد اللحظة، فمنذ بدأت التنقيب عام 1923، اختارت الشركة البقاء حتى بعد وصول تشافيز إلى السلطة عام 1998 وفرضه قوانين تمنح الدولة 51% من أي مشروع مشترك.

وفي حين غادرت شركات أخرى، بَنَت “شيفرون” علاقة شخصية وسياسية مع القيادة، تجسدت في علاقة علي مشيري بتشافيز، وفي فلسفة عبّر عنها مشيري بقوله: “لا يمكنك أن تتبنى عقلية الدخول والخروج، علينا أن نذهب حيث يوجد النفط”.

وقد جنى هذا الرهان ثماره في العقد الأول من الألفية، مع صعود أسعار النفط من 25 دولاراً للبرميل في 1999 إلى 146 دولاراً في 2008.

واستمرت العلاقة في عهد مادورو، رغم تدهور العلاقات مع واشنطن وفرض العقوبات في ولاية ترامب الأولى، ثم تخفيفها جزئياً في عهد بايدن عام 2022 لخفض أسعار البنزين الأمريكية.

حتى عندما أعلنت إدارة بايدن منع “شيفرون” علناً من دفع الضرائب أو الإتاوات، سمح ترخيص سري خاص بتلك المدفوعات، ما كشف عمق اعتماد الولايات المتحدة نفسها على وجود الشركة في فنزويلا لتحقيق توازن بين الضغط السياسي وأمن الطاقة.

قطاع نفطي على حافة الانهيار

في المقابل، يبدو واقع بقية قطاع النفط الفنزويلي قاتماً، فالحصار في جنوب البحر الكاريبي قطع الطريق أمام “أسطول الظل” المتجه إلى الصين، ما يهدد بإغلاق الآبار خلال عشرة أيام.

كما تعرضت محطة التصدير الرئيسية لهجوم سيبراني في ديسمبر الجاري، وتراجعت حركة الطيران بفعل التشويش والتحذيرات العسكرية.

وتعتمد فنزويلا كذلك على واردات الوقود المكرر والنافتا لتخفيف كثافة نفطها الخام الثقيل، ومنعُ هذه الشحنات يضيف بعداً جديداً من المخاطر، وقد يجر دولاً أخرى إلى دائرة التصعيد، حتى لو رأت إدارة ترامب أن وقف الصادرات وحده كافٍ لتحقيق أهدافها.

ويبقى خطر التصعيد قائماً، وأحد السيناريوهات يتمثل في محاولة مادورو استخدام أسطوله البحري المحدود لمرافقة الناقلات واختبار عزيمة واشنطن. وهناك سيناريو آخر أكثر خطورة وفق قراءة بقش، وهو تحرك الولايات المتحدة للاستيلاء على ناقلات راسية في المياه الفنزويلية، ما قد يؤدي إلى اشتباك مباشر، وإن كان غير متكافئ نظراً للتفوق العسكري الأمريكي.

ورغم أن أي نزاع من هذا النوع يُرجّح أن يكون قصير الأجل، فإن تدمير القدرات العسكرية الفنزويلية قد يزعزع استقرار البلاد في مرحلة ما بعد مادورو، ويفتح الباب أمام فوضى سياسية واقتصادية أعمق.

زر الذهاب إلى الأعلى