حضرموت في قلب المشروع الجديد.. اضطرابات الشرق اليمني تضرب الإصلاحات وتكشف مسار إعادة هندسة الدولة اليمنية

الاقتصاد المحلي |بقش
تتجه محافظة حضرموت، ومعها المحافظات الشرقية لليمن، إلى مرحلة شديدة التعقيد مع تصاعد الاضطرابات الأمنية والعسكرية، في مشهد يتجاوز كونه أزمة محلية مؤقتة، ليعكس تحولات أعمق في بنية الدولة اليمنية ومسارها السياسي والاقتصادي. فما يجري على الأرض لم يعد مجرد توتر أمني، بل بات عاملاً ضاغطاً يهدد البلد، ويضع مستقبل اليمن أمام سيناريوهات أكثر قتامة.
تأتي هذه التطورات في وقت كانت فيه حكومة عدن، بالتنسيق مع البنك المركزي، قد بدأت منذ نحو أربعة أشهر بتنفيذ حزمة إصلاحات مالية ونقدية محدودة، استهدفت كبح التدهور في سعر الصرف، وتحسين إدارة الإيرادات، واستعادة قدر نسبي من ثقة المانحين والمؤسسات الدولية. غير أن انفجار الوضع في حضرموت والمهرة جاء ليقوض هذه الجهود في لحظة حرجة.
الأخطر أن الاضطرابات لم تقتصر على الاحتجاجات أو الخلافات السياسية، بل ترافقت مع تحولات ميدانية عميقة، شملت السيطرة على موارد نفطية ومنافذ برية استراتيجية، ما يعني عملياً إخراج أهم شرايين الاقتصاد الوطني من يد حكومة عدن المدعومة والمعترف بها دولياً، وتحويلها إلى أدوات نفوذ بيد قوى محلية مدعومة إقليمياً.
وفي ظل هذا المشهد، تتعزز مؤشرات بأن ما يحدث لا يمكن فصله عن رؤية إقليمية أوسع، تقوم على إدارة اليمن كمساحة نفوذ مجزأة، تُدار عبر كيانات محلية ضعيفة ومتخاصمة، بما يضمن غياب الدولة المركزية، ويجعل أي مشروع إصلاحي أو وطني عرضة للانهيار عند أول اختبار.
شلل المؤسسات الحكومية وتآكل القرار السيادي
حسب متابعة مرصد “بقش”، أدت التطورات الأمنية في حضرموت والمهرة إلى شلل شبه كامل في أداء الحكومة، حيث تراجعت قدرة مؤسسات الدولة على ممارسة وظائفها الأساسية، في ظل تضارب الصلاحيات وتعدد مراكز القوة، وغياب السيطرة الفعلية على الأرض.
وكان رئيس مجلس القيادة الرئاسي رشاد العليمي قد أشار بوضوح إلى خطورة هذا المسار، محذراً من تكريس “منطق السلطات الموازية”، في إشارة تعكس واقعاً تتآكل فيه سلطة الدولة لصالح قوى أمر واقع تتصرف خارج الإطار المؤسسي الرسمي.
وأكد العليمي أن الشراكة مع المجتمع الدولي لا يمكن أن تقتصر على الدعم المالي، بل يجب أن تشمل حماية فكرة الدولة ومؤسساتها الشرعية، وهو تصريح يحمل في طياته قلقاً واضحاً من أن اليمن يُدار اليوم كملف أمني–سياسي، لا كمشروع دولة قابلة للحياة.
غير أن هذا التحذير يصطدم بواقع ميداني تُدار فيه التهدئة والتصعيد وفق ترتيبات خارجية، ما يجعل الدولة اليمنية في موقع المتلقي، لا صاحب القرار، ويُفرغ أي حديث عن سيادة القرار الاقتصادي أو السياسي من مضمونه الفعلي.
وتمثل حضرموت حجر الزاوية في الاقتصاد اليمني، إذ يضم قطاع المسيلة النفطي الذي كان يشكل نحو 39% من إجمالي الإنتاج النفطي قبل التوقف حسب اطلاع “بقش”، ما يجعل المحافظة شرياناً مالياً لا يمكن الاستغناء عنه لأي خطة إصلاح اقتصادي.
ويرى المحلل الاقتصادي وفيق صالح، في تصريحات صحفية، أن إدخال حضرموت في دائرة الصراع يهدد بشكل مباشر خطة الإصلاحات الحكومية، ليس فقط من حيث فقدان الإيرادات، بل من حيث ضرب البيئة السياسية والأمنية الضرورية لتنفيذ أي إصلاحات مستدامة.
ويشير صالح إلى أن المشكلة لا تكمن في تراجع الموارد فقط، بل في تفكك القرار السياسي المرتبط بإدارتها، إذ لا يمكن لاقتصاد أن يتعافى في ظل غياب سلطة موحدة تتحكم بالإيرادات وتعيد توزيعها وفق أولويات وطنية.
وفي سياق أوسع، يبدو أن إخراج حضرموت من معادلة الدولة المركزية ينسجم مع نمط متكرر، يتم فيه تفكيك الموارد الكبرى وإدارتها عبر قوى محلية منفصلة، بما يعمق اللامركزية القسرية، ويفتح الطريق أمام كيانات اقتصادية شبه مستقلة.
صراع نفوذ إقليمي بواجهة يمنية
يؤكد الخبير الاقتصادي رشيد الحداد أن ما يحدث في حضرموت والمهرة لا يمكن فصله عن صراع نفوذ إقليمي، تتقاطع فيه الأدوار السعودية والإماراتية، وإن اختلفت أدوات كل طرف وأساليبه في إدارة الملف اليمني.
ويشير الحداد إلى أن سيطرة المجلس الانتقالي الجنوبي على حقول النفط في شبوة وحضرموت، وصولاً إلى المنافذ البرية في المهرة، تعني عملياً انتقال معظم إيرادات الجنوب والشرق إلى خارج إطار الحكومة، وهو تحول استراتيجي في موازين القوة.
هذا الواقع، وفق الحداد، يدفع باتجاه تكريس الانفصال كأمر واقع، لا كشعار سياسي، حيث تُبنى البنية العسكرية والأمنية والاقتصادية لكيانات منفصلة، بينما تُترك الحكومة المركزية في موقع العاجز عن فرض سلطته.
وتعزز هذه الصورة التحركات المتزامنة على المستويين الأمني والاقتصادي، والتي توحي بوجود إدارة إقليمية دقيقة للمشهد، تُبقي الصراع تحت السيطرة، دون السماح بقيام دولة قوية أو موحدة.
في ظل استمرار التوترات وعدم وضوح المشهد السياسي، تبدو الإصلاحات الاقتصادية الحكومية أمام طريق مسدود، إذ تشكل الإيرادات العمود الفقري لأي برنامج إصلاحي، ومع فقدان السيطرة عليها تصبح الخطط حبراً على ورق.
ويحذر وفيق صالح من أن غياب التوافق السياسي وتوحيد الجهود يجعل من المستحيل تنفيذ إصلاحات حقيقية في ملفات حساسة مثل الرواتب والكهرباء والخدمات الأساسية، ما ينذر بمزيد من التدهور المعيشي.
ويرى صالح أن أحداث حضرموت تمثل اختباراً حقيقياً لتماسك مجلس القيادة الرئاسي، حيث إن استمرار الصراع قد يؤدي إلى تفكك الحكومة أو شللها الكامل، وتحولها من إدارة دولة إلى إدارة أزمة بقاء.
في المقابل، يذهب رشيد الحداد إلى أن الحكومة لم تكن سوى واجهة لتمرير ترتيبات خارجية، وتوفير غطاء سياسي لمشاريع لا تستهدف بناء دولة قوية، بل إدارة بلد منهك عبر كيانات صغيرة متنافسة يسهل التحكم بها.
ما تشهده حضرموت والمهرة اليوم لا يمكن قراءته كأزمة أمنية منفصلة، بل كحلقة مركزية في مسار طويل يعيد تشكيل اليمن كدولة ضعيفة ومجزأة، تُدار عبر سلطات محلية متناحرة، في إطار رؤية إقليمية ترى في التفتيت ضمانة للاستقرار بالمعنى الأمني، لا الوطني.
فإضعاف الحكومة المركزية، وتفكيك السيطرة على الموارد، وتعدد مراكز القرار، كلها مؤشرات على مشروع لا يسمح بقيام دولة يمنية موحدة وقادرة، بل يفضل يمن الدويلات الصغيرة، العاجزة عن امتلاك قرارها السياسي أو الاقتصادي وفق قراءة بقش.
وفي ظل هذا الواقع، تتحول الإصلاحات الاقتصادية إلى ضحية إضافية في معركة النفوذ، بينما يبقى السؤال الأثقل معلقاً: هل ما يجري هو فشل دولة بفعل ظروفها، أم نجاح مشروع إقليمي يعيد إنتاج اليمن كساحة نفوذ دائمة، لا كدولة ذات سيادة؟


