
منوعات | بقش
بين عامي 2000 و2025، لم يتغير حجم ثروات أغنى خمسة أشخاص في العالم فحسب، بل تغيّر منطق صناعة الثروة نفسه. فالأرقام، كما توردها حسابات فوربس ومؤشر بلومبيرغ للمليارديرات، تكشف عن انتقال تاريخي من اقتصاد صناعي تجاري تقليدي إلى اقتصاد تقوده التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي ومنصات التوزيع العالمية، حيث أصبحت التوقعات المستقبلية للنمو أهم من المؤشرات الراهنة.
وفي عام 2000، بلغ إجمالي ثروة أغنى خمسة أشخاص في العالم نحو 180.6 مليار دولار وفق اطلاع بقش على التقارير، أما في عام 2025 فقد قفز هذا الرقم إلى حوالي 1.68 تريليون دولار، أي بزيادة تقارب 831% خلال 25 عاماً فقط.
وهذه القفزة الهائلة لا يمكن تفسيرها بالتضخم أو بتحسن القوة الشرائية وحدهما، بل تعكس تحولات عميقة في آليات خلق القيمة وتسعيرها في الأسواق العالمية.
من قادة الصناعة إلى مهندسي المستقبل
عام 2000، كانت قائمة الأثرياء تعكس ملامح اقتصاد يقوم على مزيج من التكنولوجيا الناشئة آنذاك والاقتصاد التقليدي.
تصدّر “بيل غيتس” المشهد بثروة بلغت 60 مليار دولار، مدفوعاً بسيطرة مايكروسوفت على أنظمة التشغيل وبرامج إنتاجية المؤسسات.
تلاه لاري إليسون مؤسس أوراكل بثروة قدرها 47 مليار دولار، مستفيداً من بنية تحتية معلوماتية حيوية للشركات ذات هوامش ربح مرتفعة.
وجاء بول ألين، الشريك المؤسس لمايكروسوفت، بثروة 28 مليار دولار، ثم المستثمر الأسطوري وارن بافيت بثروة 25.6 مليار دولار، معتمداً على استثمارات طويلة الأجل في الاقتصاد التقليدي.
وأخيراً، الأمير السعودي الوليد بن طلال بثروة تقارب 20 مليار دولار، مستنداً إلى استثمارات في قطاعات الاتصالات والتجارة التقليدية.
كان النمو آنذاك مرتبطاً بدورات إنفاق رأسمالي أبطأ، وبأسواق محلية أو إقليمية، وبسقف ربحية تحدده سرعة استبدال الأجهزة وانتشارها.
2025: هيمنة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
بعد ربع قرن، تغيّرت الصورة جذرياً، ففي عام 2025، ترتبط معظم ثروات أغنى خمسة في العالم بالتكنولوجيا المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والقطاعات الناشئة ذات القدرة الفائقة على التوسع.
وحسب التقرير الذي طالعه بقش لمجلة فوربس الأمريكية، بلغت ثروة إيلون ماسك وحده نحو 677 مليار دولار حتى 15 ديسمبر 2025، متركزة بشكل أساسي في شركتي تسلا وسبيس إكس، اللتين تمثلان رهان السوق على السيارات الكهربائية، وأنظمة الطاقة، والبنية التحتية الفضائية.
يليه لاري بيج بثروة 266 مليار دولار، بوصفه أحد مؤسسي غوغل وأكبر المساهمين في شركة ألفابت. ثم جيف بيزوس بثروة 249 مليار دولار، مستمدة أساساً من ملكيته لنحو 9% من أسهم أمازون، التي لا تزال محرك ثروته الرئيسي.
ويأتي سيرجي برين بثروة 247 مليار دولار من حصته الطويلة الأجل في ألفابت، وأخيراً لاري إليسون بثروة 243 مليار دولار، مستفيداً من امتلاكه أكثر من 40% من أسهم أوراكل بعد تحولها إلى الحوسبة السحابية واشتراكات برامج المؤسسات.
اتساع الفجوة
الفرق الجوهري بين عامي 2000 و2025 لا يكمن فقط في حجم الثروة، بل في منطق الاقتصاد نفسه. ففي مطلع الألفية، كان رأس المال الصناعي والتجاري هو الأساس، وكانت التكنولوجيا رغم أهميتها مقيّدة بالبنية المادية ودورات الاستهلاك البطيئة.
أما اليوم، فقد أصبحت الثروة نتاج احتكار المعرفة، واتساع نطاق أسواق الأسهم، وقدرة الشركات التكنولوجية على التمدد عالمياً بتكلفة حدّية منخفضة للغاية.
حتى شركات قوية مثل مايكروسوفت وأوراكل في عام 2000، كانت تعتمد على أسواق محلية نسبياً، وعلى إنفاق رأسمالي دوري من الشركات.
وتحول النمو اليوم إلى نموذج اشتراكات وخدمات سحابية، واستهلاك متكرر، وتوسع شبه فوري عبر الحدود.
ووسط هذا التحول الجارف، يبرز وارن بافيت كاستثناء ثابت. فقد واصل الاعتماد على التراكم البطيء والمستدام عبر الاستثمار في الاقتصاد التقليدي، لا سيما التجارة، وهو النهج ذاته الذي اتبعه الأمير الوليد بن طلال. إلا أن هذا النموذج، وفق تحليل مجلة CEO World الدولية، لم يعد هو المعيار السائد لتكوين الثروات الكبرى.
وفي المقابل، تجسد ثروة إيلون ماسك نموذج الاقتصاد الحديث، حيث لا تُقاس القيمة بالمؤشرات الحالية فقط، بل بتوقعات النمو المستقبلي. إذ تحتسب الأسواق اليوم قوة الاقتصادات بمدى قدرتها على توليد الثروة خلال السنوات المقبلة، ما يمنح أولوية لاستثمارات السيارات الكهربائية، والطاقة، والفضاء، ويعكس ثقة السوق في استمرار توسع هذه القطاعات.
التوزيع بدل التصنيع.. والأسهم بدل الأصول
منذ 25 عاماً، كان التوزيع يعتمد على المتاجر وقنوات الاتصال التقليدية، لكن اليوم أصبحت المنصات الرقمية والذكاء الاصطناعي هي الاستراتيجية الأساسية للوصول إلى المستهلكين.
ومع هذا التحول، بات الارتفاع الكبير في الثروة، في كثير من الحالات، قصة ملكية أسهم أكثر من كونه امتلاك أصول مادية.
غير أن هذا التوسع العالمي جلب معه تحديات جديدة. فالشركات العملاقة أصبحت تحت مجهر اجتماعي وتنظيمي مكثف، ما يفرض على مجالس إدارتها فهماً عميقاً لمخاطر مكافحة الاحتكار، وحوكمة البيانات، ومساءلة المنصات.
فالخصائص نفسها التي تولد قيمة استثنائية للمساهمين قد تؤدي، في الوقت ذاته، إلى تدقيق صارم وربما قيود تنظيمية متزايدة.
حتى مع احتساب التضخم، تظل ثروات عام 2025 أكبر بكثير من نظيراتها في عام 2000، لأن المحرك الأساسي لم يعد القوة الشرائية، بل كيفية تسعير أسواق رأس المال للنمو القابل للتوسع عالمياً.
ويمكن القول إن العالم انتقل من اقتصاد يصنع القيمة ببطء، إلى اقتصاد يضخمها بسرعة هائلة، حيث تُكافأ الرؤية المستقبلية، والقدرة على التوسع، واحتكار المعرفة، أكثر من أي وقت مضى.


