الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

ديون الدول الفقيرة.. القيد الخفي الذي يخنق التجارة العالمية

الاقتصاد العالمي | بقش

تحولت مديونية الدول الفقيرة والنامية في السنوات الأخيرة إلى أزمة عالمية تهدد أحد أهم أعمدة الاقتصاد الدولي، وهو نظام التجارة العالمية، فبدلاً من أن تكون الديون وسيلة للنهوض بالاقتصادات المتعثرة، أصبحت عبئاً يثقل كاهلها، ويمتص مواردها المالية على حساب الاستثمار في الصحة والتعليم والتنمية البشرية، وهو ما يخلق سلسلة من التأثيرات المتتابعة تهدد الاستقرار المالي والاجتماعي في تلك البلدان، وتضعف النشاط التجاري الدولي.

ووفق اطلاع “بقش” على تقارير حديثة صادرة عن “البنك الدولي” و”صندوق النقد الدولي”، فإن 86 دولة مدينة لصندوق النقد الدولي بمجموع 118.9 مليار وحدة حقوق سحب خاصة، أي ما يعادل نحو 162 مليار دولار، وتتصدر الأرجنتين قائمة الدول الأكثر مديونية بحوالي 57 مليار دولار، تليها أوكرانيا بـ 14 مليار دولار، ثم مصر بـ 9 مليارات دولار.

تقرير البنك الدولي أشار إلى أن الدول النامية دفعت 1.4 تريليون دولار لخدمة ديونها في عام 2023، ما أدى إلى تقلص موازنات التعليم والصحة، وتقليص الإنفاق العام على برامج التنمية والتجارة.

ولم تعد هذه الأرقام مجرد مؤشرات مالية، بل إشارات تحذيرية على اختلالات عميقة تهدد التوازن الاقتصادي العالمي، حيث إن الأموال المخصصة لسداد الديون تُسحب من قطاعات أساسية تحفز النمو وتدعم الإنتاجية.

وفي 22 أكتوبر الجاري، حذّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من أن النظام التجاري العالمي يواجه خطر الخروج عن مساره بسبب تفاقم الديون، وارتفاع الرسوم الجمركية، وتراجع الأمن المالي للدول الناشئة.

وأوضح خلال مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد 16” في جنيف إن 3.4 مليارات شخص يعيشون في دول تنفق على خدمة الدين العام أكثر مما تنفق على الصحة والتعليم، داعياً إلى خفض تكاليف الاقتراض، وتسريع الدعم المالي للدول المتعثرة، وإصلاح المؤسسات المالية الدولية لتراعي حاجات الدول النامية.

وأضاف غوتيريش أن “العالم يستثمر أكثر في الموت منه في رخاء الناس”، مشيراً حسب متابعة بقش إلى تضخم الإنفاق العسكري مقابل تراجع الإنفاق الاجتماعي، وهو ما ينذر بموجة اضطرابات اقتصادية واجتماعية عالمية.

العلاقة بين الديون والتجارة.. دوامة اقتصادية خانقة

توضح التقارير الدولية أن العلاقة بين ارتفاع الديون وتراجع التجارة ليست عرضية، بل آلية بنيوية مترابطة.

فحين توجه الحكومات مواردها لسداد الفوائد وأقساط الديون بدلاً من التعليم والصحة، تتراجع جودة رأس المال البشري والإنتاجية العامة، ما يؤدي إلى تقلص القدرة على إنتاج السلع والخدمات وبالتالي انخفاض حجم التبادل التجاري العالمي.

ويؤدي ضعف الاستثمار في التعليم والصحة إلى انخفاض المهارات وارتفاع الأمراض، ما يقلل من إنتاجية العمالة على المدى المتوسط والطويل، وحين تتراجع القدرة التنافسية تفقد الدول قدرتها على دخول سلاسل القيمة العالمية، فتخرج من سوق التصدير وتتحول إلى اقتصادات استهلاكية محدودة.

من جهة أخرى، فإن تراجع الطلب المحلي بسبب انخفاض الدخل وانكماش الإنفاق الاجتماعي يؤدي إلى هبوط الطلب على الواردات من السلع الاستهلاكية ووسائط الإنتاج، ما ينعكس مباشرة على انخفاض صادرات الدول الشريكة. وهكذا تتقلص التجارة العالمية في حلقة مفرغة.

ضغوط مالية ومخاطر على العملات

وتشير التقارير إلى أن أزمات الدَّين تفرض ضغوطاً إضافية على العملات المحلية، حيث تفقد الدول المديونة جزءاً من احتياطاتها النقدية وتتعرض عملاتها للانخفاض، مما يزيد مخاطر الائتمان،
وتحت هذا الضغط تضطر البنوك المحلية إلى تقليص تمويل الاعتمادات المستندية وتمويل الواردات، فيما ترتفع تكاليف التأمين والتمويل التجاري.

ويؤدي هذا الوضع عملياً إلى تعطيل حركة الواردات والصادرات، وتراجع حجم التجارة الدولية، خصوصاً في السلع الاستراتيجية والغذائية والطاقة.

وتضطر بعض الدول إلى اتباع سياسات حمائية مؤقتة لمواجهة الأزمة، مثل فرض قيود على الاستيراد أو دعم الصناعات المحلية أو رفع الرسوم الجمركية لحماية السوق الوطنية.

لكن هذه الإجراءات تؤدي إلى كسر شبكات التوريد العالمية المتكاملة، وإضعاف الشراكات التجارية، وتفاقم الاضطرابات في سلاسل الإمداد.

في المقابل، تتأثر الأسواق العالمية بفقدان التوازن بين العرض والطلب، ما يفتح الباب أمام حروب تجارية على السلع، كما حذر غوتيريش نفسه، مضيفا: “نحن نواجه خطر اندلاع حروب تجارية جديدة”.

الجانب الاجتماعي والسياسي للأزمة

الأخطر في مسار هذه الأزمة هو انعكاسها على الاستقرار الاجتماعي والسياسي. فالتقليص المتواصل في الإنفاق الاجتماعي (الصحة، التعليم، الحماية الاجتماعية) يولّد احتقاناً اجتماعياً ومخاطر سياسية حقيقية، من احتجاجات وإضرابات وتعطيل للبنية التحتية، وكلها تضرب ثقة المستثمرين وتشل النشاط التجاري.

وقد ربطت تقارير صحافية غربية تتبَّعها بقش، من بينها صحيفة “الغارديان” البريطانية، بين تدهور أوضاع الدول المثقلة بالديون وبين تصاعد الأزمات الاجتماعية والسياسية فيها، مؤكدةً أن هذه الدائرة من التقشف والاستدانة تُغذي الفقر والاضطراب، ما ينعكس سلباً على الصادرات والواردات وعلى البيئة الاستثمارية برمتها.

وحسب قراءة بقش يمكن تخيص النتائج الكلية المترتبة على تفاقم مديونية الدول الفقيرة في انكماش الطلب العالمي نتيجة تراجع القدرة الشرائية في الدول النامية، إضعاف سلاسل الإمداد الدولية بسبب تعطل الواردات وتراجع الإنتاج المحلي، وتآكل رأس المال البشري مع تراجع جودة التعليم والصحة، وزيادة النزعات الحمائية والحروب التجارية كرد فعل على انكماش الأسواق، تراجع الاستثمارات الأجنبية المباشرة نتيجة ارتفاع المخاطر السياسية والمالية.

وذلك يضاف إلى تضخم فجوة التنمية بين الشمال الصناعي والجنوب الفقير، ما يهدد توازن النظام الاقتصادي العالمي.

الحاجة إلى إعادة هيكلة الديون

يدعو خبراء الاقتصاد إلى إعادة هيكلة الديون بطريقة عادلة، وتفعيل آليات تخفيف الديون أو مبادلتها بالاستثمار في التعليم والصحة والمناخ. كما يطالبون بإصلاح النظام المالي العالمي ليصبح أكثر تمثيلاً للدول النامية، مع إنشاء شبكة أمان مالية دولية تحمي هذه الدول من الانهيار الكامل.

ويرى بعض الاقتصاديين أن تجاهل هذه الأزمة يعني الانزلاق نحو عصر جديد من الركود التجاري، يشبه ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي، حين قادت سياسات الحمائية وتضخم الديون إلى انهيار حركة التجارة العالمية.

ولم تعد أزمة مديونية الدول الفقيرة قضية محلية تخص دولة بعينها، بل أصبحت أزمة بنيوية في النظام المالي والتجاري العالمي، فهي تُضعف الطلب العالمي، وتفكك سلاسل الإنتاج، وتعيد تشكيل موازين القوى الاقتصادية. وإذا لم تُتخذ إجراءات جذرية لخفض أعباء الديون وتمكين الدول الفقيرة من الاستثمار في الإنسان والإنتاج، فإن العولمة التجارية ذاتها مهددة بالتراجع، ليحل مكانها نظام اقتصادي مضطرب تحكمه الديون لا التنمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش