
الاقتصاد العالمي | بقش
في مشهد يعكس التحولات الجيوسياسية المتسارعة في آسيا وأوراسيا، تتخذ العلاقات الروسية الصينية خطوة جديدة نحو التكامل الاستراتيجي. موسكو لا تتحدث هذه المرة عن تعاون اقتصادي عابر أو بروتوكول دبلوماسي روتيني، بل عن إجراءات تعيد رسم اتجاه التبادل التجاري والسياحي والأكاديمي بين البلدين، وتدفع تدريجياً الدولار واليورو إلى الهامش في واحدة من أهم العلاقات التجارية العالمية.
خلال زيارة استمرت يومين إلى الصين، أعلن رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشوستين بدء العمل على إعفاء متبادل من التأشيرات للسياح بين البلدين، مشيراً وفق اطلاع مرصد “بقش” إلى أن بكين أصبحت الشريك التجاري الأول لروسيا، وأن التعامل بالعملات الغربية في التجارة الثنائية “تراجع إلى مستوى الخطأ الإحصائي”.
وفي توقيت تتراجع فيه الروابط المالية التقليدية لموسكو مع الغرب، يبدو هذا التحول تأكيداً إضافياً على توجه روسيا شرقاً بحثاً عن عمق اقتصادي واستراتيجي جديد.
اللقاء الذي جمع ميشوستين برئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانج في هانغتشو، لم يكن مجرد زيارة بروتوكولية، بل مناسبة حافلة بالرسائل: من تأكيد الثقة المتبادلة، إلى إعلان توسيع التعاون في مجالات التعليم والبحث العلمي والزراعة، مروراً بملفات الأمن والتنمية في مواجهة “تغيرات جوهرية في النظام الدولي”، بحسب التعبير الصيني الرسمي.
وتستعد موسكو وبكين لتفعيل برامج تعليمية مشتركة وتوسيع حضور الطلبة بين الجامعات، في وقت تُرسم فيه بنية تحتية بحثية جديدة تجمع المختبرات والمؤسسات الأكاديمية في البلدين.
السياحة تتجاوز السياسة.. طريق بلا تأشيرة بين الشعبين
تسعى موسكو إلى ما هو أبعد من التجارة والاقتصاد، إذ يبرز ملف السياحة كأداة لتعميق التواصل الثقافي وتعزيز العلاقات الشعبية. الصين سبقت بإلغاء التأشيرات عن الروس، وروسيا تتحرك لإعادة المعاملة بالمثل، في خطوة تعكس رغبة متبادلة في رفع أعداد الزائرين بعد عودة النشاط السياحي تدريجياً خلال العام الماضي.
ميشوستين قال إن الطلب على السفر بين البلدين آخذ في الارتفاع، مع تزايد اهتمام الشعوب بتاريخ وثقافة الآخر. الخطوة تأتي في وقت تعاني فيه موسكو من تقلص تدفقات السياح الغربيين بسبب العقوبات، ما يجعل السوق الصينية رئة سياحية بديلة ذات وزن ضخم.
وحسب إعلان الجانب الروسي، فإن الهدف هو تجاوز أرقام العام الماضي، وبناء جسور دائمة في حركة الأفراد لا تقل أهمية عن التعاون الاقتصادي.
الدولار إلى الهامش: معادلة تجارية جديدة
الجزء الأكثر لفتاً للانتباه في تصريحات ميشوستين كان تأكيده تراجع الدولار واليورو في التجارة مع بكين إلى مستويات شبه معدومة حسب قراءة بقش. هذا التحول ليس رقمياً فقط، بل رمزياً أيضاً، إذ يعبّر عن أحد أبرز التحولات في الجغرافيا المالية المعاصرة.
الصين بالنسبة لروسيا اليوم هي بوابة الأسواق العالمية، فيما ترى بكين في موسكو شريكاً استراتيجياً يوفر الطاقة والسلع الزراعية ومساحة واسعة للتعاون التكنولوجي والبحثي. وخلال الأشهر التسعة الأولى من العام، زاد التبادل الزراعي بين الجانبين بنسبة تفوق 15%، مع خطط لرفع صادرات الغذاء الروسية أكثر نحو السوق الصينية التي تزداد شهيتها لمصادر آمنة وثابتة للإمدادات.
هذا الانفصال التدريجي عن العملة الأمريكية في التجارة الثنائية يعكس تحالفاً اقتصادياً يأخذ شكل كتلة مالية بديلة في نظام عالمي تشهد عملاته موازين جديدة.
موسكو وبكين تضعان أسس تعاون يتجاوز التجارة والطاقة، ويتجه نحو تكوين عقول المستقبل. أكثر من 50 ألف طالب صيني يدرسون حالياً في الجامعات الروسية، مقابل نحو 20 ألف طالب روسي في الصين. المشهد الأكاديمي يتحول إلى مساحة لصياغة نماذج مشتركة في العلوم والتكنولوجيا والبحث.
البلدان يعملان على إنشاء معهد مشترك للبحوث الأساسية، إلى جانب بنية تحتية علمية موحدة لمشروعات كبرى، ما يفتح الباب أمام تعاون يمتد للذكاء الاصطناعي، والفضاء، والروبوتات، وعلوم المواد. هذه الشراكة التعليمية تعكس قناعة الطرفين بأن معركة المستقبل لن تُحسم فقط في ساحات الاقتصاد والطاقة، بل في مختبرات الجامعات ومراكز الابتكار.
بكين: حماية المصالح والاصطفاف مع موسكو
من جانبها، كان موقف الصين واضحاً: شراكة مع موسكو تشمل الأمن والحفاظ على مصالح البلدين في مواجهة “تحولات جذرية” في السياسة الدولية. لي تشيانج أكد في تصريحات تتبَّعها بقش استعداد بكين لتطوير الحوار الاستراتيجي وتوسيع التعاون الأمني، في رسالة تعكس اصطفافاً سياسياً حذراً لكنه ثابت.
البلدان احتفلا هذا العام بذكرى الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وزارا مواقع تاريخية، وأظهرا وحدة رمزية في مواجهة إرث الصراعات الكبرى. هذه الإشارات التاريخية ليست مجرد رمزية، بل جزء من بناء سردية مشتركة في عالم ينقسم بين قوى صاعدة ونظام غربي يواجه تحديات.
رحلة ميشوستين بدأت في هانغتشو وتستكمل في بكين بلقاء مع الرئيس شي جين بينغ وفق متابعات بقش، ما يعكس أهمية اللقاء في أجندة الكرملين. المتحدث باسم الرئاسة الروسية دميتري بيسكوف وصف الزيارة بأنها ذات أهمية “بالغة”، ورفض الكشف عما إذا كان ميشوستين يحمل رسالة شخصية من الرئيس فلاديمير بوتين إلى نظيره الصيني.
آخر لقاء على مستوى رؤساء الحكومتين كان في موسكو قبل أكثر من عام، وفي تلك الفترة زادت كثافة الزيارات بين البلدين والتنسيق في ملفات متعددة، في ظل ضغوط غربية غير مسبوقة على روسيا نتيجة حرب أوكرانيا.
روسيا تتجه شرقاً بثبات، والصين تبني محور نفوذ عالمي بعيداً عن الغرب. ما بدأ كشراكة اقتصادية أصبح اليوم منظومة أوسع تشمل الأمن والتعليم والطاقة والسياحة، فيما تتراجع مكانة الدولار في إحدى أكبر المعاملات الثنائية حول العالم.
العلاقة بين موسكو وبكين لم تعد مجرد توازن جيوسياسي، بل مشروع طويل الأمد لرسم مستقبل اقتصادي موازٍ في عالم يُعاد ترتيبه من جديد.


