
الاقتصاد اليمني | بقش
تشير أحدث معطيات المناخ الزراعي في اليمن إلى دخول البلاد مرحلة شتوية دقيقة تحمل أبعاداً اقتصادية تتجاوز الطقس إلى صلب الأمن الغذائي وسبل العيش، في وقت يعاني فيه الاقتصاد اليمني أصلاً من هشاشة مزمنة وتراجع القدرة على امتصاص الصدمات. فالتغيرات المناخية الموسمية، وإن بدت في ظاهرها اعتيادية، تتحول في السياق اليمني إلى عامل ضغط مباشر على الإنتاج الزراعي، الثروة الحيوانية، واستقرار الأسواق المحلية.
ويأتي ذلك في ظل توقعات باستمرار الأجواء الجافة والباردة خلال أواخر ديسمبر 2025، وهي فترة تمثل نقطة حساسة في الدورة الزراعية الشتوية، خصوصاً في المرتفعات والمناطق الداخلية التي تعتمد بشكل كبير على الزراعة المطرية والمراعي الطبيعية. هذه الظروف المناخية لا تؤثر فقط على المزارعين والرعاة، بل تنعكس تدريجياً على أسعار الغذاء، تكاليف الإنتاج، ومستويات الدخل في الريف والحضر على حد سواء.
اقتصادياً، لا يمكن فصل الطقس عن حركة السوق. فكل انخفاض في الإنتاج المحلي يعني توسع فجوة العرض، وزيادة الاعتماد على الواردات في بلد يواجه شحاً في النقد الأجنبي وارتفاعاً في كلفة الاستيراد. كما أن أي تدهور في صحة الثروة الحيوانية ينعكس مباشرة على أسعار اللحوم والألبان، وعلى القوة الشرائية للأسر، لا سيما في المناطق الريفية التي تعتمد على تربية المواشي كمصدر دخل أساسي.
وبحسب تقرير الإنذار المبكر والأرصاد الجوية الزراعية الذي اطلع عليه مرصد “بقش” والصادر عن الجهات المختصة بالشراكة مع منظمات دولية معنية بالأمن الغذائي، فإن هذه المرحلة تتطلب قراءة اقتصادية دقيقة للطقس، بوصفه متغيراً مؤثراً في الاستقرار الغذائي والمالي، وليس مجرد حالة مناخية عابرة.
الجفاف الموسمي وتأثيره على الإنتاج الزراعي المحلي
تشير التوقعات التي تتبَّعها بقش إلى استمرار محدودية الهطول المطري خلال العقد الأخير من ديسمبر، وهو ما يعني بقاء مستويات رطوبة التربة دون الحد الكافي لتحفيز نمو المحاصيل البعلية في عدد من المحافظات الجبلية. ورغم أن هذا النمط يُعد موسمياً في السياق المناخي، إلا أن تكراره في بيئة اقتصادية ضعيفة يضاعف أثره على الإنتاج المحلي.
الزراعة المطرية تشكل أحد الأعمدة الأساسية للاقتصاد الريفي، وأي تراجع في إنتاجها ينعكس على دخل آلاف الأسر، ويقلل من المعروض المحلي من الحبوب والخضروات الشتوية. هذا التراجع لا يظهر فوراً في الأسواق، لكنه يتراكم مع الوقت ليضغط على الأسعار، خاصة في ظل ارتفاع كلفة النقل والوقود.
من ناحية اقتصادية، يمثل ضعف الإنتاج المحلي عبئاً إضافياً على الميزان الغذائي، حيث تزداد الحاجة إلى الاستيراد لتعويض النقص، وهو ما يرفع فاتورة الغذاء في بلد يعاني من تذبذب سعر الصرف وتراجع القدرة التمويلية. ومع كل دورة جفاف شتوية، تتآكل هوامش الأمان الغذائي أكثر.
ورغم أن التقرير يشير إلى أن بعض المحاصيل الشتوية وصلت مراحل نمو تقلل من حساسيتها الفورية لنقص الرطوبة، إلا أن استمرار الجفاف يظل عاملاً مقلقاً على المدى المتوسط، خصوصاً إذا ترافق مع موجات برد حادة تؤثر على جودة الإنتاج وكميته.
الصقيع والبرودة كعامل ضغط على الثروة الحيوانية
تمثل درجات الحرارة المنخفضة، خاصة في المرتفعات والهضبة الشرقية، أحد أبرز مصادر الخطر الاقتصادي خلال هذه الفترة، حيث يرتبط الصقيع مباشرة بزيادة تكاليف تربية المواشي. فمع انخفاض الحرارة، ترتفع احتياجات الحيوانات من الأعلاف للحفاظ على توازنها الحراري، في وقت تعاني فيه المراعي أصلاً من ضعف التجدد.
هذا الوضع يفرض على المربين اللجوء إلى الأعلاف التجارية أو المخزنة، ما يرفع كلفة الإنتاج ويقلص الأرباح، خصوصاً لصغار المربين. ومع محدودية السيولة، قد يضطر البعض إلى بيع جزء من قطعانه بأسعار متدنية، ما يخلق اختلالات في السوق ويؤثر على الاستقرار الاجتماعي في الريف.
كما أن البرودة ترفع من مخاطر انتشار الأمراض الحيوانية، وهو ما يشكل عبئاً اقتصادياً إضافياً نتيجة تكاليف العلاج، ونفوق بعض الحيوانات في حال غياب الرعاية البيطرية الكافية. هذه الخسائر لا تظل محصورة عند المنتج، بل تنتقل تدريجياً إلى المستهلك عبر ارتفاع أسعار اللحوم ومشتقات الألبان.
ومن منظور اقتصادي كلي، فإن أي تراجع في قطاع الثروة الحيوانية يضعف أحد أهم خطوط الدفاع الاجتماعي في اليمن، حيث تشكل المواشي مخزوناً للقيمة ووسيلة ادخار للأسر الريفية في أوقات الأزمات.
تباين الأثر بين الداخل والساحل ودلالاته الاقتصادية
على عكس المناطق الداخلية، تشير التقديرات إلى أن السواحل اليمنية ستبقى أقل تأثراً بالبرودة، مع استقرار نسبي في الأنشطة البحرية ومصايد الأسماك حسب قراءة بقش. هذا التباين المناخي يخلق تفاوتاً اقتصادياً واضحاً بين المناطق، حيث تحافظ المناطق الساحلية على نشاطها الإنتاجي مقارنة بتراجع نسبي في الداخل.
استقرار قطاع الصيد خلال هذه الفترة يشكل عامل توازن مهم للأسواق الغذائية، إذ يساهم في توفير مصدر بروتين أقل كلفة نسبياً، ويخفف من الضغط على سلاسل الإمداد الغذائية الأخرى. كما يوفر دخلاً مستقراً لآلاف الصيادين والعاملين في الأنشطة المرتبطة بالبحر.
إلا أن هذا الاستقرار النسبي لا يعوض بالكامل خسائر الزراعة والثروة الحيوانية في الداخل، خاصة أن شبكات النقل والتوزيع لا تزال تواجه تحديات لوجستية، ما يحد من قدرة المنتجات الساحلية على تغطية النقص في المناطق الجبلية.
وبحسب تقرير الإنذار المبكر والأرصاد الجوية الزراعية، فإن هذا التفاوت الإقليمي في التأثير المناخي يعكس الحاجة إلى سياسات اقتصادية وغذائية مرنة، تراعي خصوصية كل منطقة بدلاً من اعتماد مقاربة موحدة لا تعكس الواقع الميداني.
توصيات عملية
تكشف المعطيات المناخية الراهنة أن اليمن يواجه شتاءً بارداً وجافاً يحمل مخاطر اقتصادية صامتة، تبدأ من الحقول والمراعي، وتمتد إلى الأسواق والموائد. هذه المخاطر حسب اطلاع بقش لا تظهر دفعة واحدة، لكنها تتراكم لتشكل ضغطاً متزايداً على الأمن الغذائي والاستقرار المعيشي.
التعامل مع هذه المرحلة يتطلب الانتقال من ردود الفعل إلى الاستباق، عبر تعزيز نظم الإنذار المبكر وربطها بقرارات اقتصادية عملية، مثل دعم الأعلاف، وتسهيل الوصول إلى الخدمات البيطرية، وتحسين إدارة المخزون الغذائي المحلي. فكل إجراء وقائي اليوم يخفف من كلفة التدخل الطارئ غداً.
وتبقى التوصية الأهم هي إدماج المخاطر المناخية ضمن التخطيط الاقتصادي والمالي، باعتبارها عاملاً مؤثراً في التضخم الغذائي والدخل الريفي، وليس مجرد ملف فني. فكما يوضح تقرير الإنذار المبكر والأرصاد الجوية الزراعية، فإن المناخ في اليمن لم يعد خلفية صامتة للاقتصاد، بل أحد محركاته الرئيسية التي لا يمكن تجاهلها عند رسم أي سياسات مستقبلية.


