
أخبار الشحن | بقش
تشهد تجارة الحاويات داخل آسيا واحدة من أكثر مراحل النمو زخماً خلال الأعوام الأخيرة، مدفوعة بارتفاع الطلب الصناعي في الصين والهند، وبتوسع شبكات الإنتاج الإقليمي التي استفادت من التحولات التجارية الناتجة عن الرسوم الأمريكية. ومع ذلك، يقترب هذا المسار من دخول اختبار صعب مع احتمالات إعادة فتح قناة السويس وعودة خطوط الملاحة العالمية إلى المسار القديم بعد انقطاع دام عاماً كاملاً.
ورغم أن التجارة داخل آسيا كانت المستفيد الأكبر من التحويلات التي فرضتها الأزمة البحرية في البحر الأحمر، فإن هذا الازدهار ذاته قد يتحول إلى عبء على الأسعار فور تدفق الطاقة الاستيعابية الضخمة التي كانت محجوزة لمسارات أوروبا والولايات المتحدة.
وتشير تقارير متخصصة تتبَّعها مرصد “بقش”، منها “ألفالينر” و”درويري”، إلى أن استئناف الملاحة عبر قناة السويس قد يحرر ما يقارب مليوني حاوية نمطية دفعة واحدة، وهو رقم قادر على إعادة تشكيل السوق بأكملها.
ومع تنامي الإشارات حول اقتراب وقف إطلاق النار في غزة، وتزايد استعداد شركات الملاحة الكبرى، مثل “هاباج لويد” الألمانية و”سي إم إيه سي جي إم” الفرنسية، للعودة إلى المسار التقليدي، تبدو السوق الآسيوية أمام مفترق طرق: إما الحفاظ على الأسعار المرتفعة التي شهدتها منذ سبتمبر، أو مواجهة موجة تصحيح حادة تُعيد الأسعار إلى مستويات ما قبل الأزمة.
ولأن آسيا تُعدّ اليوم أكبر مركز إقليمي للتجارة البحرية في العالم، فإن أي تغير في التوازن بين العرض والطلب داخلها ستكون له انعكاسات تمتد إلى الموانئ الأوروبية والأمريكية والخليجية، خصوصاً أن جزءاً كبيراً من الطاقة الاستيعابية العالمية أصبح يعتمد في تشغيله على التدفقات القادمة من الصين وفيتنام والهند.
التحولات التجارية بعد عام من تحويل المسارات
أدى نظام الرسوم الجمركية الأمريكية خلال العامين الماضيين إلى تحويل جزء كبير من الشحنات المتجهة إلى الولايات المتحدة نحو خطوط إنتاج بديلة داخل آسيا. استفادت فيتنام وإندونيسيا والهند من هذا التحول، وارتفعت طلبات الشحن بين هذه الدول والصين، ما خلق واحداً من أسرع خطوط التجارة نمواً في العالم. وتؤكد بيانات مؤشر مديري المشتريات استمرار هذا الزخم في الصين والهند خلال 11 شهراً من العام الماضي.
كما دفعت الشركات متعددة الجنسيات إلى تعزيز سلاسل الإمداد الإقليمية، خصوصاً بعد اضطرابات البحر الأحمر. وتزايد اعتماد المصانع الصينية على إرسال سلع وسيطة إلى دول آسيوية أخرى قبل إعادة تصديرها للأسواق الغربية، في محاولة لتجاوز الرسوم أو تقليل المخاطر السياسية.
وفي الوقت نفسه، بدأت شركات الشحن العالمية بإعادة نشر سفنها تدريجياً داخل آسيا، حيث أشارت بيانات “درويري” إلى ارتفاع الطاقة المخصصة للتجارة الإقليمية إلى 396 ألف حاوية نمطية هذا العام مقارنة بـ 325 ألف حاوية في 2023 وفق مراجعة بقش، أي بزيادة تتجاوز 22%.
أصبحت الصين والهند المحورين الأساسيين وراء استمرار ارتفاع أحجام التداول داخل آسيا، نتيجة نمو الصناعات التحويلية المحلية واتساع الطلب على المواد الخام والسلع الوسيطة. وفي ظل انكماش بعض خطوط الشحن المتجهة إلى الولايات المتحدة بسبب الرسوم، تحولت شركات كثيرة إلى الأسواق الإقليمية لتعويض الانخفاض.
كما أن شحنات القيمة العالية، مثل الإلكترونيات وقطع الغيار، تفضل المسارات الأقصر والأكثر استقراراً، ما يجعل التجارة داخل آسيا أقل تأثراً بتقلبات أسعار الوقود، وأسرع في التعافي عند حدوث اضطرابات عالمية.
ومن المتوقع أن يستمر الطلب القوي خلال العام المقبل، وفقاً لتقديرات شركات استشارية متعددة، رغم المخاوف من دخول قوى استيعابية جديدة إذا أعادت قناة السويس استيعاب مسارات أوروبا والشرق الأوسط.
رغم أن التجارة داخل آسيا تاريخياً تعتمد على سفن صغيرة، أقل من 5000 حاوية نمطية، فإن التحول العالمي الذي فرضته الطرق البديلة حول رأس الرجاء الصالح خلق فائضاً من السفن الكبيرة. وأدى ذلك إلى دفع بعض الخطوط، مثل “سي إم إيه سي جي إم”، إلى اختبار استخدام سفن أكبر في ممرات قصيرة، ما قد يزيد الطاقة الفائضة ويضغط على الأسعار بشكل سريع.
وتشير تقديرات “إم دي إس ترانسمودال” إلى أن حصة آسيا من الطاقة الاستيعابية العالمية انخفضت قليلاً منذ 2019 رغم النمو الداخلي، لأن مسارات طويلة، مثل أوروبا والشرق الأوسط وأمريكا الشمالية، شهدت توسعاً أكبر في نشر السفن الضخمة.
هل يتكرر سيناريو تراجع الأسعار بعد عودة قناة السويس؟
تتوقع “درويري” أنه بمجرد عودة خطوط الشحن عبر قناة السويس، ستتدفق إلى السوق الآسيوية طاقة إضافية تُعد الأكبر منذ عقد. وقدّرت أن نحو 10% من القدرة العالمية قد تعود تدريجياً إلى داخل آسيا، سواء عبر استيعاب سفن كبيرة أو عبر جدولتها في مسارات قصيرة لفترة انتقالية.
وتحذر التقارير من أن هذا الحجم من السعات يمكن أن يضغط على الأسعار في فترة قصيرة، خصوصاً أن الأسعار الإقليمية وصلت إلى حوالي 667 دولاراً لكل حاوية نمطية بعد موجة ارتفاع قوية.
يتوقع خبراء مثل “لارس جنسن” أن يكون الفصل الذي يلي رأس السنة الصينية الفترة الأكثر ملاءمة لبدء العودة إلى قناة السويس، نظراً لانخفاض الطلب الموسمي، وهو ما قد يساعد الشركات على تغيير المسارات دون إحداث اضطرابات ضخمة.
لكن هذا التوقيت ذاته قد يكون قاتلاً للأسعار، إذ يتزامن مع فترة تباطؤ تقليدية في التجارة داخل آسيا، ما قد يضاعف أثر الطاقة الاستيعابية المضافة.
يرى محللون أن التحولات التجارية المدفوعة بالرسوم لن تتوقف حتى مع إعادة فتح قناة السويس. ويؤكد “ستيغن روبنز” أن فيتنام والهند أصبحتا المستفيدين الأكبر من تغيير مسارات الإنتاج، ما يعني أن الطلب على الشحن الإقليمي سيبقى قوياً، لكن ليس بالقدر الكافي لتعويض تدفق السفن الكبيرة بالكامل.
توازنات جديدة في سوق تتغير بسرعة
رغم الاعتقاد السائد بأن الموانئ الآسيوية لا تستطيع استيعاب السفن الضخمة، فإن محللين مثل “أنتونيلا تيودورو” يؤكدون أن القيود ليست بنية تحتية بقدر ما هي قرارات تشغيلية. إذ تفضل الخطوط استخدام سفن صغيرة بسبب المسافات القصيرة، وكثافة الخطوط، والحاجة إلى دورات تشغيل سريعة.
ومع ذلك، فإن دخول سفن عملاقة إلى السوق، حتى بصورة مؤقتة، قد يُحدث اختلالات في جدول الإبحار وفي توازن العرض والطلب حسب قراءة بقش.
تشير تقديرات “دينامار” إلى أن بعض المسارات، مثل غرب أفريقيا وشرق المتوسط، بدأت بالفعل في استقبال جزء من السفن الكبيرة المحوّلة من البحر الأحمر، ما يعني أن أثر العودة إلى قناة السويس قد يظهر أولاً على الخطوط الطويلة، ثم ينتقل تدريجياً إلى داخل آسيا.
ويتوقع الخبراء أن يتراجع التأثير السلبي كلما ابتعدت المسارات عن النقطة الزمنية الأولى لعودة السفن، ما قد يخفف الضغط على شرق آسيا مقارنة بممرات أخرى.
تُظهر بيانات “إم دي إس ترانسمودال” التي رصدها بقش أن الطاقة المجدولة داخل آسيا ارتفعت 10% على أساس سنوي، و11% مقارنة بعام 2019، ما يعني أن المنطقة ما تزال تُعدّ مركز نمو عالمي. ومع ذلك، فإن هذا النمو قد لا يكون كافياً لحماية الأسعار من موجة تصحيح واسعة إذا عادت قناة السويس للعمل بأقصى طاقتها.
يدخل قطاع الشحن داخل آسيا مرحلة حساسة تتداخل فيها العوامل الجيوسياسية مع المتغيرات التجارية والقدرات التشغيلية. فالطلب القوي وحده قد لا يكون كافياً لتثبيت الأسعار إذا اندفعت إلى السوق طاقة استيعابية كبيرة بعد إعادة فتح قناة السويس. وفي الوقت نفسه، تُظهر بيانات شركات استشارية مثل “درويري”، و”ألفالينر”، و”إم دي إس ترانسمودال” أن التحولات في سلاسل الإمداد—خاصة من الصين إلى فيتنام والهند—ستبقي التجارة الإقليمية قوية لكنها عرضة للضغط.
كما أن انخفاض الأسعار ليس بالضرورة خبراً سيئاً للجميع؛ فالمستوردون الإقليميون قد يستفيدون من عودة التكاليف إلى مستويات أكثر استقراراً، بينما تواجه شركات الشحن تحدياً في إعادة موازنة أساطيلها. وفي نهاية المطاف، تعتمد نتيجة هذا التحول على عاملين رئيسيين: سرعة العودة إلى قناة السويس، وقدرة السوق الآسيوية على امتصاص السعات الجديدة دون انهيار الأسعار.


