الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

عولمة تجارية مثيرة للاهتمام.. كيف يتعامل الاقتصاد الدولي لتجاوز عقبات رسوم ترامب الجمركية؟

الاقتصاد العالمي | بقش

تتبدل خريطة التجارة العالمية بسرعة غير مسبوقة، مدفوعة بموجة الرسوم الجمركية التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، والتي تُعد الأعلى منذ ثلاثينيات القرن الماضي.

لكن بدلاً من الانكماش، تتجه التجارة إلى إعادة التموضع وفق اطلاع بقش على تقرير لبلومبيرغ، حيث: شراكات جديدة تتشكل، ومسارات توريد تُعاد رسمها، واقتصاداتٌ تبحث عن بدائل لتفادي الكلفة الأمريكية الباهظة.

من كندا التي تستورد اليوم سياراتٍ أكثر من المكسيك مقارنة بالولايات المتحدة، إلى الصين التي استبدلت مزارعي فول الصويا الأمريكيين بنظرائهم في أمريكا الجنوبية، يَظهر اتجاه واضح نحو إعادة توجيه التدفقات التجارية بعيداً عن مركز واشنطن. وفي المقابل، تحاول دولٌ صاعدة، مثل الهند وبيرو وليسوتو، استغلال الفجوة بتوسيع شبكاتها نحو آسيا وأفريقيا وأوروبا.

ورغم موجة الحمائية، أثبتت التجارة العالمية مرونتها، إذ رفعت منظمة التجارة العالمية توقعاتها لنمو تجارة السلع في عام 2025 من 0.9% إلى 2.4%. يبدو أن العالم لم يتراجع عن العولمة، بل وجد طرقاً جديدة لممارستها.

تحالفات جديدة خارج المدار الأمريكي والصين تعيد توجيه بوصلتها التجارية

تُظهر الاتجاهات الحديثة أن عواصم التجارة بدأت تبني جسوراً جديدة بعيداً عن الهيمنة الأمريكية. فمجموعة تضم 14 دولة، من بينها نيوزيلندا وسنغافورة وسويسرا والإمارات، أعلنت شراكة لتعزيز الاستثمار والتجارة، في حين يطمح الاتحاد الأوروبي إلى إبرام شراكة استراتيجية شاملة مع السعودية.

كما عادت الصين والهند إلى التواصل الاقتصادي المباشر بعد أعوام من التوتر، مستأنفتين الرحلات الجوية والتبادل التجاري في المعادن النادرة، في مؤشر على بروز محور آسيوي أكثر استقلالاً.

في الوقت نفسه، تتحرك اقتصادات صغيرة مثل بيرو لتسويق التوت الأزرق في آسيا، فيما تعيد ليسوتو توجيه صادراتها من المنسوجات نحو أوروبا وأفريقيا، مبتعدة تدريجياً عن الأسواق الأمريكية حسب قراءة بقش. وهذه التحالفات الجديدة، كما تصفها المفوضة الأوروبية السابقة سيسيليا مالمستروم، تعكس “محاولات واعية لإعادة بناء النظام التجاري العالمي على أسس متعددة الأقطاب”.

هذا وتشير بيانات أغسطس التي تتبَّعها بقش، إلى أن صادرات الصين إلى الولايات المتحدة انخفضت بنسبة 33%، وهو أضعف نمو في ستة أشهر. لكن في الاتجاه المقابل، ارتفعت صادراتها إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا بنسبة 23%، وإلى الاتحاد الأوروبي 10%، وإلى أفريقيا 26%، وبهذا المسار، يتجه ثاني أكبر اقتصاد في العالم نحو فائض تجاري قياسي يبلغ نحو 1.2 تريليون دولار هذا العام.

هذا التحول لا يقتصر على الأرقام، بل يعيد تشكيل شبكات النقل العالمية أيضاً. فشركة كلاركسونز المتخصصة في بيانات النقل البحري تتوقع انكماشاً بنسبة 3% في حركة الشحن عبر المحيط الهادئ، الممر الرئيسي بين الصين والولايات المتحدة، مقابل نمو في الممرات الأخرى التي تربط آسيا بأوروبا وأفريقيا.

ويقول كريستيان غونزاليس، نائب رئيس شركة International Container Terminal Services، إن “إعادة رسم خريطة التجارة العالمية قد تكون إيجابية للموانئ والمشغلين في آسيا، فالتجارة لا تتوقف، إنها فقط تغيّر اتجاهها”.

اندفاع أوروبي نحو أسواق جديدة

وعلى الضفة الأوروبية، تسارعت جهود بروكسل لنسج شراكاتٍ واسعة تُخفف من أثر الحمائية الأمريكية. ففي سبتمبر الماضي، وقّع الاتحاد الأوروبي اتفاقية تجارة حرة مع إندونيسيا بعد 10 سنوات من المفاوضات، وأعاد تنشيط محادثاته مع أستراليا التي بدأت عام 2017. كما يقترب من إتمام اتفاقية مع كتلة ميركوسور في أميركا الجنوبية، تضم أكثر من 780 مليون مستهلك.

هذه الخطوات تمثل، وفق الخبير سيمون إيفنت من المعهد الدولي للتنمية الإدارية في لوزان،
“تحولاً من الاعتماد على سوق واحدة إلى بناء شبكة من الشركاء، وهو الاتجاه الطبيعي في عالم تتراجع فيه الثقة بالنظام التجاري الموحد”.

تصف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين هذه الاستراتيجية بأنها “توسيع ذكي للنفوذ الاقتصادي الأوروبي عبر تعدد الشراكات لا مركزيتها”.

لكن هذه الدينامية لا تخلو من ضحايا، فالتحول من نظامٍ تحكمه قواعد منظمة التجارة العالمية إلى نظامٍ يعتمد الاتفاقات الثنائية والإقليمية، يجعل الدول الصغيرة الأكثر عرضة للضغط. يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة كورنيل إسوار براساد إن “العالم الجديد سيكون أقسى على الاقتصادات التي تفتقر إلى الثقل التفاوضي”.

وتبرز تيمور الشرقية كمثال رمزي: أحدث أعضاء منظمة التجارة العالمية، بناتج محلي للفرد لا يتجاوز 1300 دولار. يأمل ممثلها لدى الأمم المتحدة، أنطونيو دا كونسيساو، أن تساعد العضوية على تنويع اقتصاد بلاده المعتمد على النفط من خلال تصدير القهوة والفانيليا، لكن تلك الطموحات تواجه تحدياً في عالمٍ يزداد انقساماً وتراجعاً في التمويل المتعدد الأطراف.

الرسوم الأمريكية ترتد على الداخل

في الولايات المتحدة نفسها، بدأت تداعيات الرسوم الجمركية تضرب الشركات الصغيرة.

مثال ذلك: قام “بن كنيبلر”، مالك شركة True Places في بنسلفانيا، التي تصمّم كراسي خارجية تُصنّع في كمبوديا، بإيقاف استيراد منتجاته لأن الرسوم جعلت عمله غير قابل للاستمرار.

والنتيجة أنه يبحث الآن عن عملاء خارج بلاده للحفاظ على نشاطه. يقول كنيبلر بمرارة: “نفكر أن نكون شركة أمريكية لا تعمل في الولايات المتحدة”.

وهذه القصة المصغّرة تجسّد أثر السياسات الحمائية عندما ترتد على منتجيها؛ فالرسوم التي فُرضت لحماية السوق المحلية تُجبر بعض الشركات الأمريكية على مغادرتها.

وعلى الرغم من التصعيد الأمريكي، لم تنهَر العولمة، بل غيّرت وجهها. التجارة لم تتراجع بل أعادت توزيع مراكزها: من الغرب إلى الشرق، ومن المركز إلى الأطراف. بينما تتنافس واشنطن وبكين على فرض النفوذ، تنشأ شبكات فرعية تربط آسيا وأوروبا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية في نظام متعدد المحاور.

لكن هذه المرونة لا تعني المساواة، فالدول الكبرى تمتلك هامش المناورة عبر تحالفات وشبكات تمويل ضخمة، في حين تواجه الدول الأصغر خطر التهميش في نظامٍ يتفتت إلى كتلٍ متنافسة.

وفي الداخل الأمريكي، بدأت السياسات الحمائية تُظهر وجهها العكسي: ارتفاع التكاليف، وتآكل تنافسية المنتج المحلي، والنتيجة النهائية واضحة: الرسوم تُبطئ التجارة لكنها لا توقفها، فالعولمة، كما يبدو اليوم، لم تمُت، بل وجدت طريقاً آخر للعبور.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش