كواليس الأزمة الاقتصادية تنكشف.. لماذا يرفض رئيس الوزراء اليمني العودة من الرياض؟

الاقتصاد اليمني | بقش
تتصاعد الأزمة السياسية والاقتصادية في اليمن مع احتدام الخلاف بين حكومة عدن ومجلس القيادة الرئاسي حول ملف توريد الإيرادات العامة إلى البنك المركزي في عدن. هذه الأزمة وضعت رئيس الحكومة سالم صالح بن بريك في موقف غير مسبوق، إذ يواصل اعتكافه في العاصمة السعودية الرياض رافضاً العودة إلى عدن، حتى يحصل على التزامات وضمانات من أطراف إقليمية ودولية بضرورة التوريد الكامل للموارد إلى خزانة الدولة.
ويؤكد مقربون من رئيس الحكومة أنه يرى في استعادة الموارد العامة حجر الزاوية لأي إصلاح اقتصادي ممكن، وأن بقاء الوضع على ما هو عليه يعني عملياً شل قدرة الحكومة على القيام بمهامها الأساسية. وبحسب هذه المصادر، فإن بن بريك يعتبر أن أي حكومة في العالم لا يمكنها العمل أو إعداد موازنة من دون موارد محلية سيادية أو منح وقروض خارجية.
هذه التطورات، وفقاً لقراءة بقش، تضع اليمن أمام مفترق طرق حقيقي: إما استعادة الدولة لسيطرتها على مواردها أو الدخول في مرحلة جديدة من الانقسام المؤسسي والمالي، ما سيؤدي إلى نتائج كارثية على الاقتصاد الهش أصلاً وعلى الوضع المعيشي للمواطنين.
أكثر من 147 جهة حكومية خارج منظومة التوريد
تشير مصادر حكومية نقلها موقع مراقبون برس إلى أن الأزمة تفاقمت بفعل عجز الدولة عن إلزام أكثر من 147 جهة حكومية ومؤسسية ومحلية بتوريد إيراداتها إلى البنك المركزي بعدن، وهو ما سبق وأكده محافظ المركزي أحمد غالب المعبقي. وهذه الجهات تتوزع بين وزارات وهيئات ومؤسسات عامة ومصالح حكومية، وكل طرف يتذرع بأن الآخر لم يبدأ التوريد، ما أدى إلى تعطيل أكثر من 80% من موارد الدولة.
وبحسب اطلاع بقش، فإن هذا الوضع خلق دائرة من الفوضى المالية، حيث يعتمد البنك المركزي على موارد محدودة، أبرزها الرسوم الجمركية والضرائب في نطاق ضيق، وهي بالكاد تكفي لتغطية جزء من الرواتب الحكومية. أما الموارد السيادية الكبرى مثل عائدات النفط والغاز والموانئ، فهي خارج يد الحكومة إلى حد كبير.
هذا التشتت في الموارد جعل الحكومة عاجزة عن تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادي المعلن، إذ لا توجد إيرادات كافية لتمويل اعتمادات الاستيراد أو مواجهة التزاماتها تجاه الدائنين والمانحين. ومع استمرار الوضع الراهن، تتزايد المخاوف من انهيار اقتصادي أشمل قد يضاعف الأزمة الإنسانية في البلاد.
المصادر الحكومية نفسها أوضحت أن رئيس الوزراء يرفض العودة إلى عدن قبل الحصول على ضمانات من الرباعية الدولية (السعودية، الإمارات، الولايات المتحدة، بريطانيا) إضافة إلى فرنسا، بأن جميع الأطراف ستلتزم بالتوريد الكامل دون استثناءات، ويرى بن بريك أن أي تراجع عن هذا الالتزام سيعني فشل حكومته بالكامل.
وحسب مراقبون برس، فإن رئيس الوزراء أبلغ مقربين منه أن أي محاولة لتمرير حلول جزئية أو إبقاء الموارد بيد أطراف متفرقة ستجعل الحكومة مجرد واجهة شكلية بلا سلطة حقيقية، وهو ما دفعه إلى البحث عن دعم مباشر من الخارج لتثبيت استقلالية القرار المالي للحكومة.
ويرى محللون تحدثوا لبقش أن استمرار اعتكاف رئيس الوزراء في الرياض يعكس حجم الهوة بينه وبين مجلس القيادة الرئاسي، كما يكشف مدى اعتماد الحكومة على الضغوط الإقليمية والدولية لحل الخلافات الداخلية، غير أن طول أمد الأزمة قد يؤدي إلى فقدان الثقة بالحكومة من جانب المواطنين والموظفين، الذين ينتظرون صرف رواتبهم المتأخرة منذ أشهر.
أزمة موارد تتحول إلى أزمة سلطة
الصراع حول الموارد لم يعد مجرد خلاف مالي بل تحول إلى أزمة سلطة شاملة داخل مؤسسات الدولة. إذ أن تمسك بعض الأطراف بالتحكم في منافذ أو قطاعات حيوية مثل النفط والغاز والموانئ، يعكس رغبة في الحفاظ على النفوذ السياسي من خلال السيطرة المالية.
هذا الصراع أدى عملياً إلى تعطيل الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنتها الحكومة حسب تحليلات بقش مؤخراً، بما فيها مكافحة الفساد وإعادة تفعيل المؤسسات العامة، فكل طرف يرى أن التوريد الكامل قد يقلص نفوذه، وهو ما جعل المماطلة والتذرع بعدم التوريد من الآخرين سلوكاً سائداً.
ويورد مراقبون برس أن هذا الوضع ينذر بتآكل شرعية الحكومة، خصوصاً مع استمرار استنزاف الموارد في نفقات غير إنتاجية، مثل كشوفات إعاشة المسؤولين المقيمين خارج اليمن، في وقت لا يجد فيه الموظفون في الداخل رواتبهم ولا يحصل المواطن على أبسط الخدمات.
الرواتب والخدمات على المحك
أزمة الإيرادات انعكست بشكل مباشر على ملف الرواتب، حيث تشير التقديرات الرسمية إلى أن الحكومة بحاجة إلى ما يقارب 150 مليار ريال شهرياً لتغطية رواتب القطاع العام، في حين أن المتاح لا يتجاوز ثلث هذا المبلغ، وقد تجاوزت متأخرات الرواتب تريليون ريال يمني، ما خلق حالة من الاحتقان الشعبي.
الخدمات العامة بدورها تراجعت بشكل غير مسبوق، فالكهرباء متقطعة في أغلب المدن، والمياه لا تصل إلى معظم الأحياء السكنية إلا بشكل متقطع، بينما أكثر من 60% من المرافق الصحية خرجت عن الخدمة أو تعمل بقدرات محدودة جداً، وهذه الأزمات تزيد من تآكل الثقة بين المواطن والدولة.
الحكومة تراهن على أن إعادة الموارد ستفتح الباب أمام استقرار مالي يمكن أن ينعكس على تحسين الخدمات، غير أن استمرار تعطيل التوريد سيبقي الوضع في دائرة الانهيار، وقد يدفع نحو احتجاجات اجتماعية متزايدة في قادم الأشهر.
الأزمة الاقتصادية تترجم نفسها يومياً في معاناة معيشية قاسية، وأسعار السلع الأساسية ارتفعت هذا العام بين 30% و45%، فيما تراجعت القوة الشرائية للمواطن مع تدهور قيمة الريال اليمني، وقد أصبح متوسط دخل الفرد أقل من 2 دولار يومياً، وفق تقديرات منظمات محلية ودولية.
هذا الانهيار جعل ملايين الأسر تعتمد بشكل أساسي على تحويلات المغتربين لتغطية احتياجاتها الأساسية، في ظل غياب أي برامج دعم اجتماعي من الدولة. ومع استمرار تعطيل الموارد، يصبح تحسين الوضع المعيشي شبه مستحيل.
وكما يرى خبراء تحدثوا لبقش، فإن غياب الحلول الجذرية لأزمة الموارد يعني أن كل المعالجات الاقتصادية ستظل شكلية، وأن المواطن اليمني سيبقى الضحية الأولى. فإما أن يتم الاتفاق على توريد الإيرادات بالكامل، أو أن عدن ستواجه موجة جديدة من الانهيار المعيشي يصعب احتواؤها.