
الاقتصاد العربي | بقش
وسط صيف ساخن وطلب متزايد على الكهرباء والوقود، تجد مصر نفسها أمام مفترق اقتصادي حاد، إذ باتت رهينة لقرارات تل أبيب في ملف الغاز الطبيعي، الذي تحول من مصدر طاقة إلى ورقة ضغط سياسي واقتصادي تمارس من خلالها إسرائيل نفوذها الإقليمي بقسوة محسوبة.
فبينما يتراجع الإنتاج المحلي المصري من الغاز بوتيرة مستمرة، تلوّح إسرائيل بعصا الأسعار وتتحكم في صنبور الإمدادات، ما يضع الحكومة المصرية أمام اختبارات صعبة في إدارة ملف الطاقة والصناعة في آن واحد.
تشير تقارير إسرائيلية حديثة إلى أن تل أبيب لم تكتفِ بوقف ضخ الغاز إلى مصر أربع مرات خلال الأشهر الماضية – مرتين خلال العدوان على غزة ومرتين أثناء الحرب مع إيران – بل تسعى أيضاً إلى فرض زيادات كبيرة في أسعار التوريد، قد تصل إلى 40%، وفقاً لاطلاع بقش على ما نشره موقع “JFeed” الإسرائيلي.
وبررت إسرائيل هذه الزيادة بالطلب المرتفع في الصيف، حيث يبلغ استهلاك الكهرباء ذروته، ما يجعل مصر في موقف تفاوضي ضعيف أمام شريك يتحكم بمصدر طاقتها الرئيسي.
وبحسب صحيفة “ذا ماركر” الإسرائيلية، فإن القاهرة كانت تستورد الغاز الإسرائيلي وفق صفقة سابقة بسعر 6.7 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، ضمن عقد قيمته 15 مليار دولار لشراء 64 مليار متر مكعب. غير أن تل أبيب تسعى حالياً إلى رفع السعر إلى ما يزيد عن 9.4 دولارات، تحت ذريعة تطورات السوق، رغم أن هذه الزيادات تتجاوز المعايير التجارية وتلامس حدود الضغط السياسي.
وذهب موقع “JFeed” إلى أبعد من ذلك حين أكد أن هذه الممارسات ليست سوى “أداة نفوذ اقتصادي لإجبار القاهرة على مواقف سياسية بعينها”، خاصة في ما يتعلق بموقف مصر من الحرب في غزة ورفضها استقبال اللاجئين الفلسطينيين في سيناء. وأضاف الموقع: “إذا واصلت إسرائيل تضييق الخناق، فقد تجد مصر نفسها مجبرة على الاختيار بين كرامتها الوطنية وشبكات الكهرباء التي تعتمد على الغاز المستورد”.
صيف بلا غاز… ومصانع متوقفة
الانعكاسات الميدانية لهذا الابتزاز لم تتأخر، فمع توقف إمدادات الغاز الإسرائيلي، أصيبت قطاعات استراتيجية من الصناعة المصرية بالشلل، أبرزها الأسمدة والبتروكيماويات والحديد ومواد البناء.
مصانع ضخمة مثل “موبكو” و”أبو قير للأسمدة” علّقت عملياتها جزئياً أو كلياً، بسبب نقص الإمدادات، ما أثّر على الأسواق المحلية وسلاسل التوريد.
مصدر في الشركة القابضة للغازات الطبيعية (إيجاس) أكد أن إسرائيل بدأت مؤخراً في إعادة ضخ الغاز بمعدل محدود بلغ 200 مليون قدم مكعبة يومياً وفق متابعات بقش، بعد توقف دام أسبوعين. ويُتوقع أن يرتفع المعدل إلى 850 مليون قدم خلال شهري يوليو وأغسطس، شريطة التزام القاهرة بتعديلات على اتفاق التوريد تشمل زيادة الأسعار.
ووفق تصريحات لوزير البترول المصري “كريم بدوي”، فإن الحكومة وضعت خطة طوارئ بالتنسيق مع وزارة الكهرباء لضمان استمرارية الإنتاج وتوزيع الغاز بشكل مرن، مع تقليص الاعتماد على الغاز الطبيعي المسال المستورد نظراً لتكلفته العالية عالمياً، غير أن الخطة تصطدم برغبة إسرائيل في تعديل الاتفاقيات طويلة الأمد لزيادة أرباحها من هذه الأزمة.
هشاشة اقتصادية… واعتماد مفرط على الخارج
هذا المشهد يكشف بوضوح هشاشة منظومة الطاقة المصرية، التي باتت تعتمد بشكل شبه كلي على الواردات الخارجية لتلبية الطلب المحلي، في ظل تراجع الإنتاج الوطني من الغاز الطبيعي. منصة “ميس” للطاقة ذكرت أن الاقتصاد المصري “تنفس الصعداء” مع عودة حقول الغاز الإسرائيلية إلى العمل، ما يعكس مدى عمق الاعتماد المصري على الطاقة القادمة من وراء الحدود.
وقد توقف إنتاج المصانع في مصر والأردن إلى حد كبير خلال الحرب بين إسرائيل وإيران، بعد أن أوقفت تل أبيب صادراتها من حقلي “كاريش” و”ليفياثان”، ما تسبب في شلل صناعي واسع، دفع القاهرة إلى البدء في تنفيذ خطة طوارئ للطاقة، وفق تقرير نشره موقع “أويل برايس”.
وفي الوقت الذي تتفاوض فيه مصر مع دول مثل قطر وتركيا وروسيا لتنويع مصادر الغاز، فإن البنية التحتية والاتفاقيات التجارية طويلة الأمد تجعل التحول السريع أمراً معقداً ومكلفاً، ما يبقي الباب مفتوحاً أمام ضغوط إسرائيلية متواصلة.
اقتصاد مأزوم واحتياطات متآكلة
ليست أزمة الغاز سوى مرآة لحالة اقتصادية أكثر اتساعاً وتعقيداً، فالاقتصاد المصري يواجه أزمات متلاحقة تتنوع بين التضخم الجامح، وتراجع قيمة الجنيه، وارتفاع أسعار المواد الأساسية، فضلاً عن عبء الديون الخارجية الذي يلتهم جزءاً كبيراً من الموازنة العامة، ووفق بيانات لصندوق النقد الدولي أوردها بقش في تحليلات سابقة، فإن الدين الخارجي المصري بلغ 165 مليار دولار في نهاية 2024، ما يجعل البلاد واحدة من أكثر الدول المثقلة بالديون في الشرق الأوسط.
كما تواجه مصر صعوبات كبيرة في تأمين العملة الصعبة، ما دفع الحكومة إلى تعويم الجنيه مجدداً في مارس الماضي، ليصل سعر الدولار إلى أكثر من 50 جنيهاً في السوق الرسمية، وهو ما تسبب في موجة غلاء غير مسبوقة أثرت على القدرة الشرائية للمواطنين وزادت من نسب الفقر.
ويُضاف إلى ذلك ضعف الاستثمار الأجنبي المباشر، وغياب استقرار السياسات الاقتصادية، وتوسع بيروقراطي أثّر سلباً على بيئة الأعمال، في حين لم تنجح مشروعات كبرى كالعاصمة الإدارية الجديدة أو توسعة قناة السويس في تحقيق العوائد المرجوة منها حتى الآن، بحسب تقارير اقتصادية دولية.
رسالة قاسية من تل أبيب
خلف كل هذه الوقائع، تبرز رسالة إسرائيل الواضحة: “لا غاز من دون ثمن سياسي واقتصادي”. وبالنظر إلى موقعها كمصدر رئيسي للغاز، تسعى إسرائيل إلى تعظيم نفوذها الإقليمي عبر أدوات الاقتصاد والطاقة، مستخدمة ملف الغاز كورقة ضغط لتأديب الحلفاء وفرض الشروط.
بالنسبة لمصر، فإن المسألة تتجاوز السعر أو الكمية، لتصل إلى عمق استقلال القرار السيادي والاقتصادي. وبينما تسعى الحكومة إلى التفاوض وإيجاد بدائل، تبقى الحقيقة المقلقة أن الاعتماد على طرف متقلب سياسياً مثل إسرائيل في ملف استراتيجي كإمدادات الطاقة، يجعل من الأمن القومي المصري عرضة للاهتزاز في كل أزمة إقليمية.
الأزمة الراهنة ليست فقط أزمة غاز، بل أزمة اعتماد خطير على شريك اقتصادي غير مضمون، في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من نقاط ضعف هيكلية عميقة، وإذا لم تنجح القاهرة في بناء سياسة طاقة وطنية مستدامة ومتنوعة المصادر، فإن شبح الابتزاز سيظل ماثلاً، وربما يتحول من ورقة ضغط إلى أداة خنق حقيقية تهدد عصب الاقتصاد والصناعة في البلاد.