الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

معادن الأرض النادرة .. قصة تحوّل تراب الصين إلى سلاح فتاك يخنق اقتصاد الكوكب

الاقتصاد العالمي | بقش

في خطوة جديدة من شأنها أن تهزّ سلاسل التوريد العالمية وتمسّ الصناعات الاستراتيجية الكبرى، أعلنت الصين عن توسيع شامل لضوابطها على تصدير المعادن الأرضية النادرة والمواد ذات الاستخدام المزدوج.

القرار الذي جاء بعد أشهر من قيود سابقة فُرضت في أبريل، يعكس تشددًاً متزايداً من بكين في إدارة صادراتها من المعادن الحيوية التي تشكل أساساً لصناعات السيارات الكهربائية والطائرات المقاتلة والرقائق الإلكترونية والتقنيات العسكرية.

تمثل هذه المعادن – وعددها 17 عنصرًا تُستخدم في كل شيء من المغانط الدقيقة إلى أنظمة الدفع النفاثة – القلب النابض للتكنولوجيا الحديثة، إذ تسيطر الصين على نحو 90% من إنتاجها ومعالجتها عالمياً وفق اطلاع “بقش”. لذلك، فإن أي تغيير في السياسة الصينية تجاه تصديرها يُحدث اضطرابًا واسعًا في الأسواق الدولية، ويثير مخاوف من استغلالها كورقة ضغط جيوسياسية.

تأتي القيود الجديدة في سياق توترات متصاعدة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ يرى مراقبون أن القرار يعكس رغبة بكين في حماية مصالحها الاستراتيجية في مواجهة سياسات واشنطن التجارية والعقوبات التقنية، بينما تراه العواصم الغربية خطوة تصعيدية تُفاقم هشاشة الإمدادات وتضع الصناعات المتقدمة أمام معضلة أمنية واقتصادية مزدوجة.

تفاصيل القرار الصيني الجديد

أعلنت وزارة التجارة الصينية عن دخول قيود تصدير جديدة على خمسة عناصر أرضية نادرة إضافية حيز التنفيذ في الثامن من نوفمبر 2025، لتصبح القيود سارية على 12 من أصل 17 عنصراً أرضياً نادراً. وتشمل العناصر الجديدة الهولميوم والإربيوم والثوليوم واليوروبيوم والإيتربيوم، وهي مواد تدخل في تصنيع المغانط عالية الكفاءة والليزر والمكوّنات البصرية المتقدمة.

وتتضمن الإجراءات الجديدة توسيع الولاية القضائية خارج حدود الصين، بحيث تطال المنتجات المصنعة في الخارج إذا كانت تحتوي على مواد صينية المنشأ أو تم إنتاجها باستخدام تقنيات صينية في التعدين أو المعالجة أو صناعة المغناطيس. بذلك تتحول ضوابط الصين من رقابة على المواد الخام إلى رقابة شاملة على التكنولوجيا المرتبطة بها.

كما نصّت التعليمات التنظيمية على ضرورة حصول الشركات الأجنبية على تراخيص تصدير من مجلس الدولة خلال فترة لا تقل عن 45 يوماً، مع رفضٍ تلقائي لأي طلب يُحتمل استخدامه في أغراض عسكرية أو إرهابية أو لصالح جيوش أجنبية. أما الإعفاءات فستُمنح فقط في حالات إنسانية أو طبية عاجلة أو كوارث طبيعية حسب قراءة بقش، مع فرض عقوبات صارمة على المخالفين تصل إلى سحب امتيازات التصدير والملاحقة القضائية.

وتبرر بكين هذه الخطوة بأنها تهدف إلى “منع إساءة استخدام المعادن الأرضية النادرة” في تطبيقات عسكرية، لكنها عمليًا تمنح نفسها سلطة تنظيمية مطلقة على قطاع استراتيجي عالمي تعتمد عليه شركات في أمريكا وأوروبا واليابان وكوريا الجنوبية.

ضربة مباشرة لسلاسل الإمداد الدولية

تشير البيانات الرسمية الصينية إلى أن هذه القيود الجديدة تأتي بعد سلسلة اضطرابات سابقة في الإمدادات منذ بداية العام، إذ أدت جولة القيود الأولى في أبريل إلى تعطيل واضح في الصناعات التي تعتمد على مغناطيس الأرض النادرة، خاصة في قطاع السيارات الكهربائية.

وأظهرت تقارير غرفة التجارة الأوروبية التي طالعها بقش أن نسبة الموافقات على طلبات تصدير المعادن لم تتجاوز 13.5%، ما كبّد الشركات الأوروبية خسائر بملايين اليورو.

هذه الصعوبات أدت إلى تفاوت كبير في توفر المواد الخام وتكاليفها، وأجبرت بعض المصانع على تقليص الإنتاج أو إعادة هيكلة سلاسل التوريد، بينما أبلغت شركات في ألمانيا وفرنسا عن إجراءات غير متسقة في منح التراخيص. واعتباراً من سبتمبر، حصل 19 فقط من أصل 141 طلباً على موافقة رسمية، ما يعكس تشدداً غير مسبوق في آليات التنفيذ.

بالنسبة للدول الصناعية، يمثل ذلك تهديداً مباشراً لخطط التحول نحو الطاقة النظيفة والمركبات الكهربائية، إذ تُستخدم العناصر الأرضية النادرة في توربينات الرياح، والبطاريات، والمحركات عالية الكفاءة، والأجهزة الطبية الدقيقة. ومع توسع القيود، تصبح احتمالات تأخر المشاريع وارتفاع تكاليف الإنتاج أمراً متوقعاً على نطاق واسع.

أما الشركات الأمريكية، فقد حذرت من أن استمرار القيود قد يؤدي إلى نقص مزمن في المواد الحيوية لصناعة أشباه الموصلات وأنظمة التوجيه العسكرية حسب متابعات بقش، خصوصاً مع استبعاد أي تراخيص تُمنح لمستخدمي الدفاع الأجانب. ويُتوقع أن تتأثر قطاعات الطيران والدفاع والذكاء الاصطناعي والروبوتات المتقدمة بشكل مباشر خلال الأشهر المقبلة.

الرد الأمريكي واستراتيجية البدائل

جاء الرد الأمريكي سريعاً، إذ هدد الرئيس دونالد ترامب بفرض رسوم جمركية إضافية بنسبة 100% على الواردات الصينية اعتباراً من الأول من نوفمبر المقبل، ما لم تتراجع بكين عن قرارها. وبالتوازي، شرعت الإدارة الأمريكية في تنفيذ خطة موسعة لتعزيز إمداداتها المحلية من المعادن الأرضية النادرة.

وتضمنت الخطة استحواذ الحكومة الأمريكية على حصص في شركات تعدين محلية وأجنبية، منها شركة “MP Materials” التي تمتلك منجم “ماونتن باس” في كاليفورنيا، المنجم الوحيد العامل في الولايات المتحدة.

كما أعلنت واشنطن عن استثمارات جديدة في شركتي “Trilogy Metals” الكندية و“Lithium Americas” الأمريكية لتطوير مشاريع تعدين النحاس والليثيوم.

إلى جانب ذلك، تدرس إدارة ترامب إنشاء مخزون استراتيجي من المعادن الحيوية وتحديد حد أدنى للأسعار وعمليات شراء مسبق، لضمان استقرار الإمدادات. كما تسعى إلى تنسيق دولي مع أستراليا وكندا والاتحاد الأوروبي لتقليل الاعتماد على الصين، رغم أن هذه الجهود تواجه عقبات تمويلية وتنظيمية قد تستمر لسنوات.

ويُنظر إلى هذه الخطوات كجزء من استراتيجية “أمريكا أولًا” الهادفة إلى استعادة السيطرة على سلاسل التوريد الحساسة، لكنها تصطدم بواقع صعب: الصين لا تهيمن فقط على التعدين، بل أيضاً على التكنولوجيا الكيميائية الدقيقة التي تمكّن من معالجة المعادن وتحويلها إلى مكونات قابلة للاستخدام الصناعي.

أوروبا بين المخاوف والتحرك الدبلوماسي

في أوروبا، تتصاعد المخاوف من تأثير القيود الصينية على صناعة السيارات والطاقة المتجددة. فقد دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاتحاد الأوروبي إلى دراسة استخدام “أداة مكافحة الإكراه التجاري” ضد بكين إذا لم يتم التوصل إلى تسوية. واعتبر أن على أوروبا أن تُظهر “القوة التجارية” ذاتها التي تستخدمها الصين في فرض سياساتها.

وبالتوازي، أعلن المفوض التجاري الأوروبي ماروش شفتشوفيتش ووزير التجارة الصيني وانغ ون تاو عن عقد محادثات في بروكسل الأسبوع المقبل ضمن “حوار مراقبة الصادرات” لمحاولة تهدئة التوتر. وتشمل المفاوضات مناقشة القيود على المعادن الأرضية النادرة، والرسوم الأوروبية على السيارات الكهربائية الصينية، وملكية شركات رقائق الكمبيوتر مثل “نيكسبيريا”.

وتشير بيانات المفوضية الأوروبية إلى أن من بين أكثر من ألفي طلب ترخيص تصدير ذي أولوية لشركات الاتحاد الأوروبي، لم تتم معالجة سوى نصفها بالكامل حتى الآن، ما يفاقم الضغط على الصناعات التي تعتمد على الإمدادات الصينية. ويرى محللون في بروكسل أن نجاح الحوار سيعتمد على استعداد بكين لمنح تسهيلات فعلية، لا مجرد وعود دبلوماسية.

الهيمنة الصينية واستمرار لعبة النفوذ

تُعد الصين المنتج والمُعالج الأول عالمياً للعناصر الأرضية النادرة بنسبة تتجاوز 90%، وتمتلك نحو 69% من إنتاج المناجم وقرابة نصف الاحتياطيات العالمية. وقد مكّنها ذلك من تحويل هذه السيطرة إلى أداة ضغط اقتصادي وجيوسياسي فعالة، استخدمتها سابقاً ضد اليابان عام 2010 حين قطعت الإمدادات بسبب نزاع بحري.

ويرى مراقبون أن الخطوة الحالية لا تمثل فقط سياسة تصدير، بل استراتيجية أوسع تهدف إلى ترسيخ موقع الصين كمصدر لا غنى عنه للمواد الحيوية في الاقتصاد العالمي. كما أن فرض القيود على المنتجات المصنعة باستخدام التقنيات الصينية في الخارج يوسّع نطاق السيطرة الصينية من الموارد إلى المعرفة، مما يضع حتى الشركات غير الصينية تحت رقابة غير مباشرة لبكين.

ورغم الانتقادات الدولية، تؤكد الحكومة الصينية أن نظام التراخيص الجديد “يتماشى مع الممارسات الدولية” ويهدف إلى “منع الانتشار العسكري”. إلا أن تصريحات مسؤوليها تترك الباب مفتوحاً لتفسير أوسع، إذ يقولون إن الضوابط الجديدة تهدف إلى “حماية الأمن القومي والاقتصادي”، وهي عبارة فضفاضة تسمح بتطبيق انتقائي حسب الظرف السياسي.

تُبرز التطورات الأخيرة مدى التحول في طبيعة المنافسة بين القوى الكبرى، من حرب الرسوم الجمركية إلى صراع على المواد الخام التي تُغذي الثورة التكنولوجية. فبمجرد أن شددت الصين ضوابطها، وجدت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي نفسيهما أمام واقع جديد يُعيد ترتيب أولويات الأمن الصناعي والاقتصادي على حد سواء.

وتكشف هذه الأزمة أن اعتماد العالم على الصين في المعادن الأرضية النادرة ليس مجرد مسألة تجارية، بل قضية تتعلق بالسيادة التقنية والأمن القومي للدول الصناعية. ومع أن واشنطن وبروكسل تسعيان إلى بناء بدائل عبر التعدين المحلي والشراكات الدولية، إلا أن إنشاء سلاسل توريد مستقلة سيستغرق سنوات طويلة ويحتاج إلى استثمارات ضخمة وإصلاحات بيئية معقدة.

في نهاية المطاف، يبدو أن الصين تمسك اليوم بأحد أهم مفاتيح الاقتصاد العالمي، وأن القيود الجديدة ليست سوى بداية مرحلة جديدة من “دبلوماسية الموارد” التي قد تعيد رسم خريطة النفوذ الصناعي لعقود مقبلة. وبينما تتحرك الدول الكبرى للبحث عن مخرج، تظل بكين في موقع المُتحكم بإمدادات المستقبل.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش