الاقتصاد العالمي
أخر الأخبار

هزة عنيفة تضرب السندات الأمريكية: أسوأ أداء أسبوعي منذ +40 سنة يثير قلق الأسواق العالمية

شهدت سوق سندات الخزانة الأمريكية، التي يُنظر إليها عادةً كمقياس عالمي للأمان المالي، أسبوعاً كارثياً، مسجلةً أكبر خسارة أسبوعية لها منذ عام 1982.

موجة البيع العنيفة هذه دفعت المستثمرين إلى التخلي عن الأصول الأمريكية، مما أدى إلى ارتفاع حاد في عوائد السندات طويلة الأجل بوتيرة لم نشهدها منذ أكثر من أربعة عقود.

يأتي هذا الانهيار في ثقة المستثمرين كرد فعل مباشر على حالة عدم اليقين التي خلقتها السياسات التجارية الأمريكية المتقلبة، خاصة فيما يتعلق بالرسوم الجمركية، والتي أحدثت اضطراباً في الأسواق المالية حول العالم.

هذا الوضع لا يهدد فقط بإضافة ضغوط تضخمية عبر زيادة تكاليف الاقتراض لكافة قطاعات الاقتصاد – بدءاً من قروض الشركات وصولاً إلى الرهون العقارية للمنازل، بل يلقي أيضاً بظلال من الشك العميق حول مصداقية سندات الخزانة كملاذ آمن تقليدي.

ففي تحول لافت، تتراجع قيمة هذه السندات جنباً إلى جنب مع هبوط أسواق الأسهم، مما يدفع المستثمرين للبحث عن بدائل أكثر استقراراً مثل الفرنك السويسري، الذهب، والين الياباني.

ترقب لانهيار مشابه لأزمة 2008

ارتفع العائد على سندات الخزانة الأمريكية لأجل 10 سنوات – وهو المؤشر الأساسي الذي تُبنى عليه تكاليف الاقتراض عالمياً – بما يصل إلى 16 نقطة أساس يوم أمس الجمعة وحده، ليقترب من مستوى 4.6%. ويمثل هذا زيادة تتجاوز نصف نقطة مئوية (أكثر من 50 نقطة أساس) مقارنة بنهاية الأسبوع الماضي، وهو تحرك ذو حجم استثنائي في سوق السندات. وبالمثل، شهدت السندات الأطول أجلاً، لأجل 30 عاماً، ارتفاعاً في عائدها بمقدار 12 نقطة أساس ليقترب من 5%.

إذا ما استمر هذا الاتجاه الصعودي الحاد في العوائد، فإن وتيرة الارتفاع خلال خمسة أيام فقط ستتفوق على الفوضى التي شهدتها الأسواق خلال ذروة الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وستكون الأكبر منذ أوائل الثمانينيات، وهي حقبة كانت فيها أسعار الفائدة مرتفعة بشكل كبير أصلاً.

هذا الوضع دفع خبراء مثل بهانو باويجا من مجموعة “يو بي إس” للتحذير من أننا نشهد “إعادة تعريف لسعر الفائدة الخالي من المخاطر في العالم”، مضيفاً أن إدخال عنصر التقلب الشديد على هذا السعر المرجعي يمكن أن “يقلب جميع الأسواق رأساً على عقب”.

فقدان الثقة وتدفقات رؤوس الأموال

تُعزى هذه التقلبات العنيفة بشكل كبير إلى فقدان الثقة في استقرار السياسات الأمريكية، كما أشارت كاثي جونز من مجموعة “تشارلز شواب”، موضحة أن “التغيرات المفاجئة في سياسة الرسوم الجمركية” تسببت في تصفية صفقات تعتمد على الرفع المالي وأبعدت المشترين المحتملين.

هذا التآكل في الثقة أضعف شهية المستثمرين الدوليين للأصول الأمريكية، وأثار تكهنات بأن كبار حاملي الديون الأجانب – مثل الصين – قد يستخدمون حيازاتهم من السندات كورقة ضغط عبر بيعها.

تزامن تراجع أسعار السندات مع انخفاض حاد في قيمة الدولار الأمريكي، الذي سجل الأسبوع المنصرم أكبر هبوط أسبوعي له منذ عام 2022. هذا الارتباط يشير بقوة إلى أن المستثمرين الأجانب يقومون بسحب استثماراتهم من السوق الأمريكية.

ونتيجة لذلك، لجأ المستثمرون إلى أسواق الدين الأوروبية بحثاً عن الاستقرار، مما حافظ على شبه استقرار في عوائد السندات الألمانية، في حين قفزت عوائد السندات الأمريكية المقابلة بأكثر من 50 نقطة أساس، وهذا التباين يمثل أسوأ أداء نسبي لسندات الخزانة الأمريكية مقابل نظيرتها الألمانية منذ عام 1989 على الأقل.

ما وراء الأرقام: إعادة تقييم المخاطر العالمية وتأثير الدومينو على الاقتراض

ما يحدث يتجاوز مجرد تعديل في الأسعار؛ فهو يعكس إعادة تقييم أساسية للمخاطر المرتبطة بالاقتصاد الأكبر في العالم. لعقود طويلة، كانت سندات الخزانة الأمريكية هي الأصل “الآمن” الذي لا جدال فيه.

عندما يبدأ هذا الأصل في التصرف بتقلب يشبه الأصول ذات المخاطر العالية، فإن ذلك يجبر المستثمرين على إعادة التفكير في كيفية بناء محافظهم الاستثمارية وتوزيع أصولهم عالمياً. مثال: صندوق تقاعد كان يخصص 60% من استثماراته للسندات الأمريكية “الآمنة” قد يضطر الآن لتقليل هذه النسبة والبحث عن بدائل، مما يزيد الطلب (ويرفع أسعار) أصول أخرى مثل سندات حكومات مستقرة أخرى أو الذهب.

ارتفاع عائد السندات الأمريكية لا يؤثر فقط على الحكومة الأمريكية، فالشركات الكبرى التي تصدر سندات لتمويل عملياتها ستجد أن تكلفة اقتراضها ترتفع، لأن المستثمرين سيطلبون عائداً أعلى لتعويضهم عن المخاطر المتزايدة في السوق.

هذا بدوره قد يؤدي إلى تباطؤ الاستثمار والتوسع التجاري. مثال: شركة تكنولوجيا كانت تخطط لإصدار سندات بمليار دولار لتمويل بحث وتطوير قد تجد أن سعر الفائدة الذي يجب أن تدفعه ارتفع من 5% إلى 6%، مما يزيد تكلفة التمويل السنوية بـ 10 ملايين دولار وقد يدفعها لإعادة التفكير في المشروع.

ضغوط على الميزانية الأمريكية والسيولة

موجة البيع هذه تأتي في وقت تتزايد فيه المخاوف بشأن حجم العجز في الميزانية الفيدرالية الأمريكية، إذا استمر المستثمرون في المطالبة بعوائد أعلى لشراء الديون الأمريكية الجديدة، فإن خدمة هذا الدين ستصبح أكثر تكلفة على دافعي الضرائب الأمريكيين.

علاوة على ذلك، تشير تقارير السوق، مثل تلك الواردة من “ويلز فارغو”، إلى “إضراب من المشترين” وتدهور حاد في السيولة (سهولة بيع وشراء السندات دون التأثير على سعرها)، مما يجعل السوق أكثر عرضة للتقلبات الحادة ويذكرنا بالضغوط التي شوهدت أثناء أزمات مصرفية سابقة.

هذا الارتفاع في عوائد السندات طويلة الأجل يمكن أن يُنظر إليه على أنه “تشديد للأوضاع المالية” تقوم به السوق بنفسها، بغض النظر عن قرارات مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأمريكي) بشأن أسعار الفائدة قصيرة الأجل.

هذا قد يساعد في كبح التضخم على المدى الطويل، ولكنه يأتي بتكلفة تباطؤ اقتصادي محتمل. وفي الوقت نفسه، قد يخلق ضغوطاً على الفيدرالي لتغيير مسار سياسته النقدية استجابة لضغوط السوق المتزايدة، مما يضيف طبقة أخرى من عدم اليقين.

تواجه سوق السندات الأمريكية لحظة حرجة، ففقدان الثقة الناجم عن السياسات المتقلبة، مقترناً بالمخاوف الهيكلية بشأن الدين والسيولة، يخلق بيئة محفوفة بالمخاطر قد يكون لها تداعيات واسعة النطاق على الاستقرار المالي العالمي وتكاليف الاقتراض.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش