
تقارير | بقش
في واحدة من أكثر لحظات المشهد السياسي الأمريكي إثارة في 2025، قلب المرشح التقدمي زهران ممداني قواعد اللعبة في نيويورك، وفاز بمنصب العمدة كأول مسلم يفوز بانتخابات نيويورك، رغم حملة مالية ضخمة قادها كبار المليارديرات لإسقاطه.
ورغم أن استطلاعات الرأي قبل أشهر فقط كانت تُظهر ممداني في المراتب الأخيرة، إلا أنه فاز على غريمه أندرو كومو وهو عمدة سابق للمدينة، ليصبح بذلك أول مسلم يقود نيويورك، واعتبر فوزه دليلاً على تحول المزاج الشعبي داخل الحزب الديمقراطي.
والنتيجة لم تكن مجرد فوز انتخابي؛ بل كانت تصويتاً احتجاجياً على نموذج اقتصادي يعتبره كثيرون سبباً في اتساع الفجوة الاجتماعية وتفاقم أزمة السكن وغلاء المعيشة في أغنى مدينة على وجه الأرض.
الانتخابات شهدت مشاركة قياسية هي الأعلى منذ 1969، في مؤشر على عمق التحولات داخل المزاج الشعبي الأمريكي، وعلى رغبة طبقات واسعة لتحدي تزايد نفوذ المال السياسي. ممداني الذي خاض حملته بتمويل شعبي صغير وبشعارات ضد الإيجارات المرتفعة والضرائب غير العادلة، واجه ماكينة مالية وإعلامية تتجاوز 26 مليارديراً وفق اطلاع مرصد “بقش”، لكنه خرج منتصراً بفارق يتجاوز مليوني صوت.
هذه النتيجة حملت معنى أعمق: إنها ليست فقط هزيمة مرشح أمام آخر، بل هزيمة سردية اقتصادية رسخت طويلاً أن الأسواق والمال هما من يحددان اتجاه السلطة في نيويورك. الآن، وللمرة الأولى منذ عقود، بدا أن “المدينة التي لا تنام” استيقظت على واقع سياسي جديد يضع العدالة الاجتماعية أمام نفوذ وول ستريت.
وبينما تعتبر نيويورك مركز الاقتصاد العالمي ومقراً لأكبر المؤسسات المالية، فإن صعود ممداني يمثل اختباراً تاريخياً لعلاقة الشارع بالثروة، ولحدود قدرة رأس المال على تشكيل الديمقراطية في دولة تعرّف نفسها باعتبارها “موطن الليبرالية الاقتصادية”.
مليارديرات على خط النار.. فشل المال في شراء القرار
خاض كبار أثرياء وول ستريت وأباطرة العقار معركة مفتوحة لمنع وصول ممداني إلى المنصب. شخصيات مثل مايكل بلومبيرغ، وبيل آكمان، وعائلات ثرية مثل لاودر ووالتون وتيش، ضخوا ملايين في حملات مضادة، أملاً في الحفاظ على مدينة تمثل قلب مصالحهم المالية.
جاءت هذه الأموال عبر لجان سياسية مثل “Fix the City” و“Defend New York”، التي روّجت لمخاوف من انهيار سوق العقار وهروب الشركات إذا وصل ممداني للسلطة، محذّرة من “نهاية نيويورك كعاصمة مالية عالمية”. ومع ذلك، لم تُفلح الحملات في التأثير على الناخبين، بل على العكس ساهمت في خلق رد فعل عكسي، إذ رأى كثيرون في هذا التدخل المالي محاولة فجة لشراء نتائج الانتخابات.
جاءت رسائل ممداني مباشرة: “ينفقون ضدي أكثر مما كنت سأفرضه ضرائب عليهم”. هذه الجملة شكّلت ضربة سياسية مركزة، حولت أموال النخبة إلى عبء دعائي ضدهم. وبالتزامن، ارتفع حضور الطبقات العاملة والمتضررين من أزمة السكن، ليشكلوا قاعدة انتخابية صلبة ضد نفوذ رأس المال.
أمام هذا المشهد، بدا وكأن المدينة توجه ضربة سياسية عميقة للمنطق السائد: أن المال قادر على هندسة النتائج. نيويورك قالت العكس؛ المال لم يعد ضماناً للانتصار.
رسالة صندوق الاقتراع: من يملك المدينة؟
بينما ركز المنافس كومو على قضايا الأمن والجريمة، جعل ممداني من مسألة القدرة على تحمل سكان نيويورك النفقات محور حملته وفق متابعات بقش، مستخدماً شعارات مثل “مدينة يمكننا تحمّل تكاليفها” و”إسكان ميسور للجميع”.
وقُرئ فوز ممداني بأنه لم يكن مجرد انتصار شخصي، بل إشارة إلى تحول داخل السياسة التقدمية في أمريكا، حيث أصبحت قضايا مثل السكن الميسور وتكاليف المعيشة تتقدم على الخبرة السياسية التقليدية والشخصيات القديمة مثل أندرو كومو.
وجاء صعود ممداني مدفوعاً بواقع اجتماعي متفجر: أزمة إسكان غير مسبوقة، ارتفاع إيجارات وخدمات، وتضخم يضغط على الطبقة المتوسطة والعاملين. هذه الطبقات التي عانت من سياسات السوق العقارية، وجدت في البرنامج التقدمي لممداني فرصة لاستعادة التوازن.
ما حدث ليس مجرد موجة يسارية في مدينة ليبرالية بطبيعتها؛ بل هو تصويت احتجاجي ضد اقتصاد يستفيد منه الأعلى دخلاً بينما ينشغل البقية بالقدرة على دفع الإيجار وإيجاد مقعد في المواصلات العامة حسب قراءة بقش. في مدينة تتفاخر بناطحات السحاب، ارتفعت أصوات سكان يعيشون قلقاً يومياً على إيجاراتهم ورواتبهم وحقوقهم الأساسية.
ممداني قدم نفسه ممثلاً لهؤلاء، لا كسياسي تقليدي بل كصوت قادم من قلب الأزمة، مستنداً إلى دعم غير مسبوق من المتطوعين، وشبكة تبرعات صغيرة أثبتت قوتها أمام التمويل الكبير. من خلال هذا النهج، نجح في إعادة تعريف الحملة السياسية كحركة شعبية لا كسباق إعلانات.
النتائج تثبت حقيقة جديدة: الناخبون لم يعودوا يرون الثروة والنجاح المالي دليلاً على حسن إدارة المدينة، بل يرون فيهما أحياناً سبباً للأزمة نفسها.
ماذا يعني فوز ممداني؟ نقطة انعطاف للسياسة الأمريكية
فوز ممداني ليس حدثاً محلياً فقط؛ بل رسالة تمتد إلى بقية الولايات والمدن الكبرى، في لحظة تتصاعد فيها النقاشات حول العدالة الاقتصادية، الإيجارات، وملكية المدن. هذه الانتخابات قد تعيد تشكيل خطاب الحزب الديمقراطي، وتفتح نقاشاً داخل أمريكا حول حدود نفوذ المليارديرات في الحياة السياسية.
على المدى القريب، سيواجه ممداني اختباراً صعباً: ترجمة الوعود إلى سياسات قابلة للتطبيق في بيئة اقتصادية شديدة التعقيد.
لكن في الوقت ذاته، أثبت أن الحركات الداعية إلى العدالة الاجتماعية قادرة على الفوز في مواجهة رأس المال، وأن الحملات الشعبية ليست مجرد شعار رومانسي، بل قوة سياسية حقيقية.
في النهاية، لم يكن فوز ممداني مجرد انتصار سياسي فردي، بل انتصار سردية كاملة تقول إن الديمقراطية لا تزال تستطيع كبح نفوذ المال حين يتحرك الناس. نيويورك، مدينة المال العالمي، أرسلت رسالة: السياسة يمكن أن تخرج من يد أصحاب المليارات وتعود إلى الشارع.
السؤال الآن: هل كانت هذه لحظة استثنائية؟ أم بداية تحول واسع قد يمتد إلى بقية المدن الأمريكية ويعيد تشكيل مستقبل الاقتصاد السياسي في الولايات المتحدة؟.


