واشنطن تهدد وبكين تتوعد.. حرب تجارية جديدة تلوح بين الصين وأمريكا وهذه أسبابها وملامحها

الاقتصاد العالمي | بقش
في مشهد يعيد إلى الأذهان ذروة الحرب التجارية التي اجتاحت العالم قبل سنوات قليلة، أعلنت بكين أنها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام نية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فرض رسوم جمركية بنسبة 100% على السلع الصينية.
التصريحات التي صدرت عن وزارة التجارة الصينية اليوم الأحد حملت لهجة غير معتادة من الحزم، إذ شددت على أن “الصين لا تسعى إلى الحرب، لكنها لا تخافها”، مؤكدة أن الرد سيكون “واسع النطاق ومدروساً”.
هذا الموقف يعكس إدراك بكين أن الرسوم الجديدة قد تشكل ضربة موجعة لطموحاتها الصناعية والتكنولوجية، لكنها في الوقت نفسه تسعى لإظهار قدرتها على الرد بالمثل في ميدان يعتمد عليه الغرب أكثر مما يعتمد عليه الشرق: المعادن النادرة، المورد الذي أصبح الآن سلاحاً استراتيجياً في لعبة النفوذ الاقتصادي العالمي.
الأسواق من جانبها لم تتأخر في التفاعل، إذ تراجعت مؤشرات الأسهم الأمريكية والآسيوية على حد سواء، وارتفعت أسعار الذهب والنفط وسط قلق المستثمرين من عودة موجة الرسوم المتبادلة التي كانت قد كبّدت الاقتصاد العالمي خسائر فادحة قبل أن تهدأ عام 2021.
المعادن النادرة.. شرارة الأزمة الجديدة
بدأ التصعيد الأخير عندما فرضت الصين قيوداً مشددة على صادرات المعادن الأرضية النادرة، التي تدخل في صناعات حساسة مثل أشباه الموصلات والطائرات المقاتلة والسيارات الكهربائية.
الولايات المتحدة وصفت القرار بأنه “عدوان اقتصادي” حسب متابعة بقش للاتهامات المتبادلة، معتبرة أنه يهدد أمنها الصناعي ويقوّض سلاسل الإمداد الدفاعية والتكنولوجية. لكن من وجهة نظر بكين، فإن الإجراء جاء كرد فعل طبيعي على سلسلة قرارات أمريكية منعت شركات صينية من الحصول على الرقائق المتقدمة ومعدات تصنيعها.
ومنذ مطلع سبتمبر، وسّعت وزارة التجارة الأمريكية قائمة العقوبات لتشمل أكثر من 3000 منتج وتقنية، وهو ما تعتبره الصين استفزازاً مباشراً لقطاعها الصناعي. ورداً على ذلك، أرسلت بكين رسالة حادة مفادها أن “التحكم في المواد الخام التي يحتاجها الغرب سيكون جزءاً من معادلة الردع الاقتصادي المقبلة”.
خبراء الطاقة والمعادن في آسيا يرون أن بكين لا تستخدم هذه الورقة فقط للدفاع عن مصالحها، بل أيضاً لإعادة تشكيل موازين القوة في الاقتصاد العالمي، إذ إن السيطرة على 80% من إنتاج العالم من هذه المعادن وفق اطلاع بقش يمنحها قدرة غير مسبوقة على التأثير في السياسات الصناعية للدول الكبرى.
التحذيرات الصينية جاءت بعد إعلان الرئيس الأمريكي نيته مضاعفة الرسوم الجمركية على السلع الصينية لتصل إلى 100%، وهو أعلى مستوى منذ بدء الحرب التجارية بين البلدين عام 2018.
ترامب قال خلال تجمع انتخابي في أوهايو إن “الولايات المتحدة لن تسمح للصين باستغلالها اقتصادياً بعد الآن”، مؤكداً أن “من لا يفهم لغة الرسوم لا يستحق المنافسة معنا”.
المحللون في واشنطن يربطون هذا التصعيد مباشرة بالسياسة الداخلية، فمع اقتراب انتخابات التجديد النصفي في 2026، يسعى ترامب إلى تقديم نفسه كحامي الوظائف الأمريكية، في وقت تتعرض فيه الصناعة المحلية لضغوط من الواردات منخفضة التكلفة القادمة من آسيا.
في المقابل، يعتبر خبراء الاقتصاد أن رفع الرسوم بهذا الشكل قد يرتد سلباً على المستهلك الأمريكي عبر زيادة التضخم وارتفاع أسعار السلع الأساسية.
وتشير تقديرات “بلومبيرغ إيكونوميكس” إلى أن تطبيق رسوم بنسبة 100% سيرفع متوسط التعرفة الفعلية على السلع الصينية إلى نحو 140%، وهو مستوى كفيل بتجميد التبادل التجاري بين القوتين وتعطيل جزء كبير من سلاسل التوريد العالمية.
قمة مرتقبة بين ترامب وتشي تواجه خطر الإلغاء
من المفترض أن يلتقي الرئيسان الأمريكي والصيني في قمة تستضيفها كوريا الجنوبية بعد أسبوعين، وهي أول مواجهة مباشرة بينهما منذ ست سنوات. لكن أجواء القمة ملبدة بالغيوم بعد أن ألمح ترامب إلى إمكانية إلغاء اللقاء احتجاجاً على “تحركات بكين العدائية في سوق المعادن”.
دبلوماسيون في بكين قالوا إن الصين ما زالت “منفتحة على الحوار”، لكنها لن تقبل التفاوض “تحت التهديد”. ويعتقد مراقبون أن كلا الجانبين يدرك حجم المخاطر التي قد يسببها الانفصال الاقتصادي الكامل، إذ من شأنه أن يضرب التجارة العالمية ويضعف النمو في الاقتصادات الصاعدة.
ورغم الحديث عن احتمالات التأجيل، لا تزال القمة تمثل فرصة نادرة لخفض التصعيد قبل دخول الرسوم الأمريكية حيّز التنفيذ في الأول من نوفمبر، تليها بأيام القيود الصينية على المعادن والمكونات التكنولوجية.
ويرى محللون أن مجرد جلوس ترامب وتشي على طاولة واحدة سيكون بحد ذاته مؤشراً إيجابياً للأسواق، حتى لو لم تُحقق القمة اختراقاً ملموساً.
من الاقتصاد إلى الأمن القومي.. التكنولوجيا في قلب المواجهة
وراء الخطاب التجاري، تختبئ معركة أعمق تتعلق بالسيطرة على التكنولوجيا المتقدمة. فالولايات المتحدة ترى أن الصين تستخدم الدعم الحكومي والابتكار الصناعي لانتزاع الصدارة في مجالات الذكاء الاصطناعي والروبوتات والاتصالات، بينما تعتبر بكين أن واشنطن تتعمد عرقلة نموها التكنولوجي للحفاظ على هيمنتها العسكرية والاقتصادية.
منذ عام 2019، فرضت الولايات المتحدة قيوداً متتالية على تصدير الرقائق والبرمجيات إلى الصين، ثم وسّعت نطاقها لتشمل الشركات التي تتعامل معها حسب مراجعات بقش. وردّت بكين بخطط لتطوير صناعة رقائق محلية مكتفية ذاتياً بحلول عام 2030.
ويقول محللون إن الصراع الحالي ليس على “من يصنع أكثر”، بل على من يملك المعرفة والبيانات التي تحدد مستقبل الاقتصاد الرقمي.
ومع دخول ملفات مثل الذكاء الاصطناعي والتقنيات الحيوية في قلب النزاع، أصبحت الحرب التجارية أشبه بـ سباق هيمنة على القرن الحادي والعشرين لا مجرد خلاف على الرسوم.
التكنولوجيا تحت المجهر.. «تيك توك» نموذجاً
من تداعيات التوتر الأخير بروز أزمة جديدة حول تطبيق “تيك توك”، إذ تخشى واشنطن أن يؤدي استمرار الخلاف إلى تعطيل صفقة فصل العمليات الأمريكية للتطبيق، بعد معارضة مشرعين أمريكيين لملكيته الصينية بحجة الأمن القومي.
وتؤكد مصادر اقتصادية أن الصين عرضت حزمة استثمارية كبيرة لتهدئة التوترات، لكن الإجراءات المقيدة التي تفرضها لجنة الأمن القومي الأمريكية جعلت من الصعب تمرير أي استثمار صيني في السوق الأمريكية حالياً.
مركز الأبحاث الصيني “CF40” حذّر في تقرير حديث من أن واشنطن ستكون المتضرر الأكبر إذا تصاعدت الأزمة، لأن الرسوم المرتفعة ستزيد تكاليف الاستيراد وتفاقم نقص السلع الاستراتيجية.
في المقابل، تراهن بكين على أن انقسام المشرعين الأمريكيين بين التشدد والانفتاح سيمنحها مساحة للمناورة حتى لا تُغلق قنوات الاستثمار بالكامل.
على الرغم من القيود الأمريكية المتزايدة، تُظهر البيانات أن الاقتصاد الصيني ما زال متماسكاً. فقد حققت الصادرات ارتفاعاً قياسياً هذا العام في أسواق آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ما عوّض جزئياً عن تراجع الطلب من الولايات المتحدة وأوروبا.
وتُرجع بكين هذا الأداء إلى سياسات “التحول نحو الجنوب العالمي” التي تشجع على بناء شراكات صناعية جديدة خارج الفضاء الغربي.
تقرير للبنك الآسيوي للتنمية اطلع عليه بقش أشار إلى أن الصين نجحت في الحفاظ على معدلات نمو صناعي تقارب 4% رغم العقوبات، وهو ما يمنحها قدرة تفاوضية أكبر في أي محادثات قادمة.
لكن محللين يحذرون من أن استمرار الصراع سيُضعف زخم التعافي العالمي، خصوصاً إذا امتدت القيود إلى قطاعات الطاقة والرقائق الدقيقة، ما قد يخلق فجوات خطيرة في سلاسل الإمداد الدولية.
أوراق القوة الصينية.. المعادن النادرة كسلاح استراتيجي
هيمنة الصين على سوق المعادن النادرة تمنحها ورقة ضغط حقيقية، فهي تتحكم في أكثر من 80% من الإمدادات العالمية، وتُستخدم هذه المواد في صناعة كل شيء من الهواتف الذكية إلى المقاتلات والطائرات المسيّرة.
هذا التفوق يجعل بكين قادرة على توظيف مواردها الطبيعية كورقة ردع سياسية واقتصادية. وقد استخدمت هذه الورقة سابقاً في 2024 عندما لوّحت بوقف صادراتها مؤقتاً، ما دفع واشنطن لتخفيف بعض قيودها التجارية.
ويرى مراقبون أن بكين تعتمد الآن نهجاً أكثر تنظيماً من ذي قبل؛ فهي لا تلوّح بالمنع الكلي بل تتحكم في الرخص والتوريد بأسلوب تدريجي يمنحها مرونة أكبر في التفاوض.
وكتب الصحفي الصيني البارز هو شيجين على منصة “إكس” قائلاً: “الصين اليوم تعرف وزنها في السوق العالمية، ومن يحاول تجاوز الخط الأحمر سيكتشف أنه يعتمد علينا أكثر مما نظن”.
قبل أسابيع من القمة المرتقبة، يقف الاقتصاد العالمي على حافة مرحلة جديدة من الغموض. فالتصعيد بين واشنطن وبكين لا يبدو أنه سينتهي بقرار واحد أو جولة تفاوض، بل هو سباق مفتوح على النفوذ والقيادة العالمية.
الأسواق تتأرجح بين الأمل والخوف، والشركات متعددة الجنسيات بدأت تضع سيناريوهات بديلة لسلاسل الإمداد تحسباً لأي انقسام اقتصادي بين الشرق والغرب.
ورغم الضجيج السياسي، يرى بعض المحللين أن تسوية مؤقتة تلوح في الأفق لتجنب الانفجار الكامل، ربما عبر اتفاق جزئي يعيد التوازن إلى الرسوم مقابل التزام متبادل بعدم استخدام المعادن النادرة كسلاح.
لكن إن فشلت القمة المقبلة في تحقيق اختراق، فالعالم مقبل على فصل جديد من حرب اقتصادية كبرى قد تعيد تشكيل خريطة التجارة العالمية لعقدٍ قادم بأكمله.