
تقارير | بقش
لم يكن قطاع التقنية العالية “الهايتك” في إسرائيل يوماً مجرد قطاع اقتصادي عادي، بل اعتُبر لعقود القلب النابض للاقتصاد الإسرائيلي ومحرك نموه الأول، إذ أسهم بأكثر من 15% من الناتج المحلي الإجمالي، ووفّر ما يقارب 10% من الوظائف وفق تتبُّع “بقش” للبيانات، كما جذب مليارات الدولارات من الاستثمارات الأجنبية.
لكن الحرب على غزة وما تبعها من اضطرابات اقتصادية وجيوسياسية، قلبت المشهد رأساً على عقب، فانهارت المؤشرات التي طالما تباهت بها تل أبيب، وتحوّل الهايتك من “قاطرة النمو” إلى مرآة تعكس عمق الركود والانكماش المتزايد في الاقتصاد الإسرائيلي.
في تقرير جديد طالعه “بقش”، ذكرت صحيفة كالكاليست الاقتصادية الإسرائيلية أن سوق العمل الإسرائيلي يواصل تراجعه الحاد في ظل تباطؤ اقتصادي متعمّق منذ اندلاع الحرب في 07 أكتوبر 2023، وأكدت أن مؤشرات الأجور والعمالة تعكس أزمة هيكلية تضرب عمق الاقتصاد الإسرائيلي وتبتعد به عن مستويات ما قبل الحرب.
وحسب البيانات الرسمية التي راجعها بقش، تراجَعَ متوسط الأجور في قطاع الهايتك بنسبة 3.1% خلال أغسطس 2025، ليصل إلى 32,244 شيكل (نحو 9,900 دولار أميكي)، مقارنة بـ33,168 شيكل في يوليو السابق، مبتعداً عن الذروة التي بلغها في مارس الماضي عند 36,731 شيكل (نحو 11,300 دولار).
وعَكَس هذا التراجع المتسارع في الأجور حالةَ فقدان الثقة والاستقرار داخل أكثر القطاعات حيوية في الاقتصاد الإسرائيلي.
أما عدد العاملين في هذا القطاع فقد انخفض بنسبة 0.5% إلى أكثر من 400 ألف وظيفة فقط، أي ما يمثل 9.6% من إجمالي الوظائف في الاقتصاد الإسرائيلي، وهو أدنى مستوى في خمس سنوات. وتؤكد الصحيفة أن هذا التراجع “يضرب أحد أعمدة النمو الأساسية في إسرائيل”، حيث باتت شركات التقنية تواجه ركوداً استثمارياً حاداً، وتراجعاً متزايداً في التوظيف بفعل الحرب والاضطرابات المالية.
الاستثمارات تتباطأ ورؤوس الأموال تهرب
منذ بداية الحرب، شهدت بيئة الأعمال الإسرائيلية اضطراباً غير مسبوق، خصوصاً في القطاعات المرتبطة بالتكنولوجيا والابتكار.
فوفقاً لتقرير كالكاليست نفسه، فإن تباطؤ الاستثمارات التقنية يهدد مكانة إسرائيل كمركز عالمي للابتكار والتمويل، بعدما كانت تتصدر المشهد في الشرق الأوسط من حيث جذب الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال المغامِرة.
تراجعت الصفقات الاستثمارية، وانخفضت عمليات التمويل التأسيسي للشركات الناشئة بنسبة تتجاوز 40%، وسط تقارير تفيد بأن عدداً متزايداً من المستثمرين الأجانب بدأوا بنقل استثماراتهم إلى أسواق أكثر استقراراً، مثل الولايات المتحدة وأوروبا. كما لجأت شركات إسرائيلية عدة إلى تسريح جماعي للموظفين أو تجميد مشاريعها البحثية، في ظل غياب الرؤية السياسية والاقتصادية الواضحة.
والأزمة لم تتوقف عند قطاع “الهايتك” وحده، بل امتدت إلى سوق العمل الإسرائيلي بأكمله.
فوفق قراءة بقش للتقرير، خسر سوق العمل الإسرائيلي نحو 140 ألف وظيفة خلال شهرين فقط، بعد أن تراجع عدد المهن من 4.194 ملايين في يوليو إلى 4.051 ملايين في سبتمبر الماضي، أي بانخفاض إجمالي يقارب 3.4%.
وتشير كالكاليست إلى أن هذه الأرقام تبقى أدنى بكثير من مستويات ما قبل الحرب في سبتمبر 2023، حين بلغ عدد الوظائف 4.244 ملايين.
هذه الفجوة في سوق العمل تعني أن الاقتصاد الإسرائيلي لم يتمكن من التعافي من آثار الحرب، وأنه يسير بخطى ثابتة نحو ركود عميق.
ورغم هذا التراجع الوظيفي، ارتفع متوسط الأجور العامة بنسبة 1% فقط، ليصل إلى 14,073 شيكل (نحو 4,340 دولاراً)، وهو ما وصفته الصحيفة بأنه ارتفاع شكلي لا يعكس تحسناً في القدرة الشرائية أو الإنتاجية، خصوصاً مع ارتفاع معدلات التضخم وتراجع قيمة الشيكل أمام الدولار واليورو.
كارثة سوق العمل الإسرائيلي
أدى استمرار الحرب على غزة إلى شلل واسع في الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تم استدعاء أكثر من 350 ألف جندي احتياط من القوى العاملة، ما ترك فراغاً هائلاً في مختلف قطاعات الإنتاج والخدمات، بما في ذلك الصناعة والبناء والنقل والسياحة والزراعة.
وانعكس هذا النزيف البشري في سوق العمل في تراجع الناتج المحلي الإجمالي بأكثر من 6% خلال الربع الثاني من العام، وفق تقديرات مؤسسات مالية دولية.
كما أن توقف العمل في مشاريع البنية التحتية الكبرى، وتعليق الاستثمارات الخارجية، وإغلاق العديد من الشركات الناشئة، ساهم في تفاقم الأزمة.
ومع انتقال الحرب إلى مرحلة طويلة الأمد، بدأت الشركات الأجنبية بإعادة النظر في وجودها داخل إسرائيل، بسبب المخاطر الأمنية والتقلبات السياسية والمالية، وبالفعل غادرت بعض الشركات الأراضي المحتلة، وقرر بعضها الآخر تجميد أنشطته حتى هدوء المرحلة، وهو ما شكّل ضربة قاصمة لإسرائيل ومساراتها الاقتصادية، بل ولمؤشرات الثقة الدولية في أدائها وأسواقها.
وفي الوقت ذاته، قفزت نسبة البطالة في إسرائيل من 4.2% في مايو الماضي إلى أكثر من 10% في يوليو 2025، خاصة بعد الحرب مع إيران حسب مراجعات بقش. وتشير التقديرات إلى أن عشرات الآلاف من الإسرائيليين يعملون حالياً بدوام جزئي أو بوظائف مؤقتة منخفضة الأجر، بعد أن فقدوا وظائفهم الثابتة في قطاعات التقنية والسياحة والتجارة.
تراجع الثقة الاستثمارية والمؤشرات المستقبلية
نقلت الصحيفة الإسرائيلية عن محللين اقتصاديين قولهم إن استمرار هذه الاتجاهات “يشير إلى بداية ركود حقيقي”، وأن الثقة الاستثمارية باتت عند أدنى مستوياتها منذ عقد، خصوصاً في ظل هروب رؤوس الأموال من قطاع التقنية الذي كان يمثل العمود الفقري للاقتصاد الإسرائيلي.
ويحذر خبراء الاقتصاد من أن الأزمة مرشحة للتفاقم في حال استمرار الحرب، إذ من المتوقع أن يواصل الشيكل تراجعه، وأن تواجه الحكومة الإسرائيلية صعوبة في تمويل العجز المتزايد في الموازنة العامة، بعد أن ارتفعت النفقات العسكرية إلى مستويات غير مسبوقة.
وقبل الحرب، كانت إسرائيل تُسوّق نفسها عالمياً كـ”أمة الشركات الناشئة”، بفضل بيئة الابتكار، والدعم الحكومي الكبير للبحوث والتطوير، وشبكة التعاون مع الشركات الأمريكية العملاقة. غير أن الحرب على غزة غيّرت الصورة كلياً.
فقد أظهرت الأزمة هشاشة هذا النموذج الاقتصادي القائم على الاستثمارات الأجنبية ورأس المال المغامر، إذ تبيّن أن الاستقرار الأمني والسياسي هو الركيزة الأولى للنمو التقني والمالي، وأن أي زعزعة في هذا الاستقرار كفيلة بإغراق السوق في الركود.
في المقابل، باتت إسرائيل تواجه تحديات هيكلية مزدوجة، مثل خسارة الكفاءات نتيجة هجرة العقول إلى الخارج خصوصاً إلى أوروبا والولايات المتحدة، وتراجع الثقة الدولية في بيئة الأعمال الإسرائيلية، بعد تقارير عن تدهور الأوضاع الأمنية وتزايد المقاطعات الأكاديمية والاقتصادية.
ويؤكد تراجع أجور الهايتك وانكماش الوظائف أن إسرائيل تمر بمرحلة تهالك في بنية الاقتصاد الإسرائيلي الذي كان يعتمد بشكل مفرط على التكنولوجيا كمصدر للنمو، واليوم ومع استمرار التوترات -رغم وقف إطلاق النار المفترَض واستمرار الخروقات الإسرائيلية- ومع استمرار الحرب وتفاقم العجز المالي وارتفاع البطالة وتآكل ثقة المستثمرين، يبدو أن إسرائيل تقف أمام كارثة اقتصادية متكاملة الأركان، لن تكون آثارها قصيرة المدى، فالهزة في قطاع التقنية أصبحت أزمة شاملة تُنذر بتحويل إسرائيل من مركز إقليمي للابتكار إلى اقتصاد متعثر يبحث عن قاطرة جديدة للنمو.


