(بالوثائق) الكشف أخيراً عن +200 جهة حكومية تحتفظ بمليارات الريالات من الإيرادات بعيداً عن بنك عدن المركزي

الاقتصاد اليمني | بقش
في قلب الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تضرب اليمن منذ سنوات طويلة، تنكشف ملامح واحدة من أخطر الظواهر التي تنخر جسد المالية العامة: مئات الجهات الحكومية تمتلك حسابات مصرفية خارج البنك المركزي، وتدير مواردها بعيداً عن الخزينة العامة، في خرق واضح للقانون المالي، وبما يفتح الباب أمام الفساد والتلاعب المالي.
القضية لم تعد مجرد ملاحظة رقابية عابرة، بل أصبحت ملف فساد رسمي متكامل، أحالته الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد إلى النائب العام، متضمناً 66 ورقة توثق بالأسماء والجهات والبنوك الخاصة وفق اطلاع بقش على هذه الوثائق.
هذه القضية تمسّ جوهر سيادة الدولة المالية، وتكشف واحدة من الأسباب البنيوية العميقة للأزمة النقدية والمالية التي تعصف بالبلاد.
ولا يتعلق الأمر هنا بعدد من المؤسسات الصغيرة أو الجهات الهامشية، بل بوزارات وهيئات وشركات عامة ذات طابع سيادي أو إيرادي كبير. بعضها يدير مليارات الريالات شهرياً، لكنها لا تمر عبر البنك المركزي، ما يعني أن الدولة اليمنية عملياً لا تتحكم في جزء كبير من أموالها العامة.
هذا الانفلات المالي لا ينعكس فقط على عجز الموازنة أو قدرة البنك المركزي على ضبط السيولة، بل يشكّل أيضاً شبكة اقتصادية موازية قائمة داخل جهاز الدولة نفسه، تتغذى على غياب الرقابة وتراكم سنوات من الفوضى المؤسسية والانقسام السياسي.
ملف ثقيل على طاولة النائب العام
الهيئة الوطنية العليا لمكافحة الفساد، برئاسة القاضي “أفراح بادويلان”، أرسلت مؤخراً إرسالية رسمية إلى النائب العام حصل بقش على نسخة منها، تطلب فيها إحالة القضية إلى النيابة المختصة لاستكمال التحقيق والتصرف القانوني.

الملف وُصف بأنه أحد أهم وأضخم ملفات الفساد المالي في السنوات الأخيرة، ويتعلق بـ«غسل أموال، وعرقلة سير العمل، ومخالفة القانون المالي رقم (8) لسنة 1990م ولائحته التنفيذية».
تتضمن الإرسالية كشفاً تفصيلياً بأكثر من 200 جهة حكومية ومؤسسة عامة، إلى جانب قائمة بالحسابات المصرفية التي تحتفظ بها هذه الجهات في البنوك التجارية وشركات الصرافة.
وتشير الوثائق إلى أن الجهات المعنية قامت بفتح حسابات جانبية دون موافقة وزارة المالية أو البنك المركزي، في مخالفة صريحة للإجراءات القانونية المعمول بها.
الأهمية الاستثنائية لهذا الملف لا تكمن فقط في عدد الجهات، بل في طبيعتها. فمن بين هذه الجهات شركات نفط، مؤسسات اتصالات، وزارات خدمية ذات إيرادات كبيرة، وجامعات حكومية، وصناديق سيادية، وهيئات مستقلة.
بمعنى آخر، نحن أمام شبكة مالية واسعة تعمل داخل مؤسسات الدولة ولكن خارج سيطرة الدولة المركزية، وهو ما يهدد وحدة النظام المالي ويقوّض أي محاولة لإصلاح اقتصادي حقيقي.
قانون مالي واضح… لكن التطبيق غائب
القانون المالي اليمني رقم (8) لسنة 1990م، ولائحته التنفيذية، ينصان بوضوح على إلزام جميع الجهات الحكومية والمؤسسات العامة بتوريد مواردها فوراً إلى حساباتها لدى البنك المركزي اليمني، وعدم فتح أي حسابات في البنوك التجارية أو شركات الصرافة إلا بموافقة رسمية. الهدف من ذلك هو تركيز كل الموارد العامة في خزانة واحدة تحت إدارة البنك المركزي، بما يضمن وحدة السياسة المالية والنقدية للدولة.
لكن الواقع مختلف تماماً، فخلال السنوات الماضية، ونتيجة الانقسام السياسي وضعف الرقابة، توسعت الجهات الحكومية في فتح حسابات خارجية وتشغيل إيراداتها عبر بنوك خاصة مثل البنك التجاري اليمني، بنك التضامن، بنك التسليف التعاوني والزراعي، بنك الكريمي الإسلامي، والبنك الأهلي اليمني، إلى جانب شركات صرافة مثل العمقي، النجم، العربي، وعدن للصرافة.
هذه الممارسات لم تعد استثناءً، بل أصبحت قاعدة، وهو ما حول النظام المالي إلى شبكة موازية خارجة عن سيطرة وزارة المالية والبنك المركزي. ويؤكد خبراء اقتصاديون أن هذه الظاهرة تمثل واحداً من أخطر أسباب اختلال السياسة النقدية، لأنها تخلق فجوة ضخمة بين الإيرادات الفعلية المتداولة في السوق والإيرادات المسجلة في دفاتر الدولة، ما يعمّق العجز المالي ويقوّض الثقة في العملة الوطنية.
20 جهة تكفي لشرح حجم الفجوة
تكفي مراجعة أسماء 20 جهة من بين أكثر من 200 جهة غير مورّدة لفهم حجم المشكلة، وهي:
- شركة النفط اليمنية – فرع تعز.
- شركة النفط اليمنية – ساحل حضرموت – المكلا.
- المؤسسة العامة للاتصالات – عدن.
- الشركة التجارية الصناعية – عدن.
- الهيئة العامة لمشاريع مياه الريف – لحج والضالع.
- مكتب الصحة في لحج، تعز، حضرموت، المهرة وسقطرى.
- المؤسسة العامة للطرق والجسور – عدن.
- المؤسسة الاقتصادية اليمنية.
- طيران اليمنية.
- شركة صافر لعمليات الاستكشاف والإنتاج.
- شركة المسيلة لاستكشاف وإنتاج البترول.
- يمن موبايل – فرع عدن.
- تيليمن – عدن.
- مؤسسة موانئ البحر العربي.
- الخطوط الجوية اليمنية – عدن.
- وزارة الأوقاف – قطاع الحج والعمرة.
- الصندوق الاجتماعي للتنمية.
- جامعة تعز بفروعها.
- وزارة الكهرباء والطاقة – عدن.
- الهيئة العامة للاستثمار – لحج.
هذه الجهات وحدها تدير مليارات الريالات شهرياً، لكن الجزء الأكبر من هذه الأموال لا يدخل إلى حسابات البنك المركزي. بعض هذه المؤسسات يتحكم في قطاعات حيوية مثل النفط، الاتصالات، النقل، الموانئ والطيران، وهي قطاعات تُعتبر في أي دولة شرياناً مالياً أساسياً للموازنة العامة.
وعملياً، يعني وجود هذه الأموال خارج سيطرة البنك المركزي أن الحكومة تعمل بموارد أقل بكثير من المتاحة فعلياً في الاقتصاد، وهو ما يفسر الفجوة بين الأرقام الرسمية والواقع المالي، ويعزز مناخ الفوضى المالية ويفتح الباب واسعاً أمام الفساد.
تأثير مباشر على السياسة النقدية والمالية
حين يفشل البنك المركزي في ضبط إيرادات المؤسسات الكبرى وينتهي بها الأمر نحو التسرب إلى حسابات خارج البنك، يفقد الأخير القدرة على إدارة المعروض النقدي بفعالية. فالبنك المركزي يعتمد على تدفق الموارد العامة لضبط مستويات السيولة، وتمويل الإنفاق العام، وتطبيق أدوات السياسة النقدية مثل أسعار الفائدة والاحتياطي الإلزامي.
لكن مع احتفاظ الجهات الحكومية بحساباتها الخاصة في البنوك التجارية، يصبح البنك المركزي أمام كتلة نقدية كبيرة لا يملك السيطرة عليها. هذا يؤدي إلى اضطراره لطباعة مزيد من النقود لتغطية العجز، كما تناوله مرصد بقش في تقارير سابقة، مما يرفع معدلات التضخم ويضعف قيمة العملة المحلية أمام العملات الأجنبية.
النتيجة المباشرة لذلك هي دورة تضخمية خانقة يشعر بها المواطن يومياً في شكل ارتفاع الأسعار وتآكل القوة الشرائية، بينما تُستخدم الموارد الحقيقية خارج الإطار الرسمي، في أنشطة لا تخضع للرقابة ولا تدخل في حسابات الموازنة العامة.
شبكة مالية موازية تهدد أي إصلاح اقتصادي
المشكلة لا تكمن فقط في ضياع الأموال أو ضعف الرقابة، بل في أن هذه الظاهرة تؤسس لوجود شبكة مالية موازية داخل الدولة نفسها. هذه الشبكة تدير أموالاً طائلة وتتمتع باستقلال مالي فعلي، ما يجعل أي محاولة لإصلاح المالية العامة أو تنفيذ برامج دعم دولية مشروطة بالشفافية محفوفة بالفشل.
فكيف يمكن للحكومة أن تقنع المؤسسات الدولية بأنها قادرة على ضبط الإنفاق وتحسين تحصيل الإيرادات، بينما جزء كبير من إيراداتها يُدار خارج الخزينة العامة؟ وكيف يمكن للبنك المركزي أن ينفذ سياسة نقدية متماسكة إذا كانت الجهات الحكومية نفسها خارج نطاقه؟
هذه الأسئلة تمثل جوهر المشكلة التي ظلّت لعقود بعيدة عن الضوء. لكن مع إحالة الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد هذا الملف إلى النائب العام، باتت القضية اليوم أمام اختبار حقيقي للعدالة والرقابة.
الملف أمام القضاء… فهل يتحرك؟
ملف القضية، كما ورد في الإرسالية الرسمية التي اطلع عليها بقش، يتكون من 66 ورقة، ويحمل اتهامات ثقيلة تتعلق بـ«غسل أموال – مخالفة القوانين المالية – عرقلة سير العمل». هذا النوع من القضايا يستدعي تحركاً قضائياً عاجلاً، خاصة أنه يتصل بهيئات ووزارات وشركات حكومية ذات وزن مالي ضخم.
لكن التجربة السابقة تُظهر أن ملفات مماثلة غالباً ما تُركن في الأدراج بفعل الضغوط السياسية أو تدخلات نافذة. بعض الجهات الواردة في القائمة تتمتع بحماية سياسية أو قبلية أو عسكرية، ما يجعل ملاحقتها مسألة معقدة تتجاوز الجانب القانوني إلى حسابات النفوذ.
مع ذلك، يرى اقتصاديون أن فتح هذا الملف على مصراعيه يشكل فرصة نادرة لإعادة بناء النظام المالي من الداخل. فإخضاع هذه الجهات لسلطة البنك المركزي لا يتطلب فقط قرارات إدارية، بل إرادة سياسية موحدة، وهو ما ظل مفقوداً منذ بداية الانقسام السياسي عام 2015.
القضية التي كشفتها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ليست جديدة، لكنها اليوم موثقة بأسماء وأرقام وملفات رسمية. وهي تكشف بوضوح أن الأزمة الاقتصادية اليمنية ليست فقط أزمة شحّ موارد، بل أزمة فساد تسمح بتسرب الأموال العامة خارج الأطر الرسمية.
وجود أكثر من 200 جهة حكومية تحتفظ بإيراداتها خارج البنك المركزي هو ببساطة اعتراف عملي بأن الدولة لا تسيطر على مالها العام، وأن أي حديث عن إصلاح اقتصادي سيظل بلا قيمة ما لم تتم معالجة هذه الثغرة البنيوية.






