
الاقتصاد العالمي | بقش
في خطوة تصعيدية جديدة ضد المؤسسات الأكاديمية العريقة، أوقفت إدارة الرئيس دونالد ترامب بشكل مفاجئ تمويلات اتحادية ضخمة لجامعة هارفارد، طالت بشكل مباشر مشاريع بحثية دفاعية حساسة تقدر بنحو 180 مليون دولار تم ضخها في السنوات الأخيرة.
هذا الإجراء، الذي يأتي ضمن حملة أوسع تستهدف ما تصفه الإدارة بـ”الفكر اليساري المستيقظ” ومعاقل “معاداة السامية” المزعومة في الجامعات، يهدد بتعطيل أبحاث استراتيجية ويفتح الباب أمام تساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الحكومة والمؤسسات البحثية الكبرى في الولايات المتحدة.
حملة ترامب العقابية ضد هارفارد: أبعاد وتفاصيل
تعد الضربة المالية الأخيرة جزءاً من استراتيجية عقابية أوسع نطاقاً يقودها الرئيس ترامب ضد جامعة هارفارد، والتي يعتبرها رمزاً للمؤسسات التعليمية التي يرى أنها انحرفت عن مسارها، ففي أبريل الماضي، أعلنت الإدارة عن تحركاتها لتجميد ما يقارب 2.2 مليار دولار من المنح و60 مليون دولار من العقود المخصصة للجامعة.
ولم يخف الرئيس ترامب دوافعه، معلناً صراحة أنه يسعى لفرض تغيير جذري في هارفارد وغيرها من الجامعات النخبوية، التي اتهمها بالخضوع لـ”الفكر المستيقظ” وبأنها أصبحت “معاقل لمعاداة السامية”.
وتجاوزت تصريحات ترامب الإعلانات الرسمية، حيث لجأ إلى منصته “Truth Social” ليهاجم الجامعة بشكل شخصي، متهماً إياها بتوظيف “ديمقراطيين وأغبياء اليسار الراديكالي وأصحاب العقول الفارغة” كأساتذة، ولم يتوقف الأمر عند تجميد الأموال، بل لوّح ترامب بإمكانية إعادة توجيه مليارات الدولارات من منح البحث العلمي والهندسي التي كانت مخصصة لهارفارد إلى مدارس ومعاهد تجارية وفق متابعة بقش، في خطوة اعتبرها الكثيرون محاولة لتقويض مكانة الجامعات البحثية التقليدية.
هذه الإجراءات، التي تشمل التشهير المباشر والتهديد بسحب موارد حيوية، ترسم صورة واضحة لنهج عقابي يهدف إلى إخضاع المؤسسة الأكاديمية لرؤية الإدارة السياسية والأيديولوجية.
تداعيات تجميد التمويل على الأبحاث الدفاعية الحيوية
كشف تحليل أجرته شركة “Govini”، المتخصصة في برمجيات الدفاع، أن جامعة هارفارد تلقت منذ عام 2020 نحو 418 منحة بقيمة إجمالية بلغت 180 مليون دولار من البنتاغون ووكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة (DARPA) ومختلف أفرع الجيش الأمريكي.
ووفقاً لتحليل رويترز، مولت بعض هذه المنح أبحاثاً طبية عسكرية، ودراسات لمكافحة أسلحة الدمار الشامل، وأبحاثاً متقدمة في مجال الليزر، وغيرها من المجالات الحساسة.
التوقف المفاجئ لهذه التدفقات المالية أدى إلى شلل في مشاريع بحثية استمرت لسنوات، وقلب برامج راسخة ليس فقط في هارفارد بل في شبكة من الجامعات المتعاونة. وتقدر “Govini” أنه في عام 2025 وحده، سيتوقف ضخ التمويل لنحو 103 منح يبلغ مجموعها حوالي 14 مليون دولار.
ومن الأمثلة الصارخة على ذلك، مشروع كاتيا بيرتولدي الأستاذة بكلية الهندسة والعلوم التطبيقية بجامعة هارفارد، الذي تبلغ قيمته 6 ملايين دولار وفق اطلاع بقش وممول من البنتاغون. هذا المشروع الذي يهدف إلى تطوير هياكل متغيرة الشكل ذات تطبيقات عسكرية متقدمة، مثل هوائيات قابلة لإعادة التشكيل وملاجئ قابلة للنشر كمستشفيات ميدانية بالاعتماد على تقنية مستوحاة من فن الأوريغامي، تم إيقافه قبل أسبوعين رغم أنه كان في منعطف حاسم.
مبررات البنتاغون ورد هارفارد القانوني
برر متحدث باسم البنتاغون هذه الخطوة بأن وزير الدفاع، بيت هيغسيث، “وجه بإنهاء العديد من البرامج والعقود والمنح التي لا تتماشى مع أولويات الوزارة لخفض الإنفاق المهدر، وتنفيذ أوامر الرئيس، وإعادة تخصيص المدخرات للأولويات الحرجة للمهام”.
ووجد تحليل “Govini” أن الجزء الأكبر من المنح المجمدة كان موجهاً للبحوث الطبية العسكرية والبحث العلمي الأساسي والتطبيقي، وكان الجيش هو أكبر ممول لها.
في المقابل، لم تقف جامعة هارفارد مكتوفة الأيدي، حيث رفعت دعوى قضائية لاستعادة التمويل، واصفة التخفيضات بأنها “هجوم غير دستوري” على حقوقها في حرية التعبير ومحاولة للتدخل في استقلاليتها الأكاديمية.
تمتد تداعيات إلغاء تمويل الأبحاث إلى ما هو أبعد من جامعة هارفارد، لتؤثر على شبكات تعاونية واسعة النطاق، مشروع الأستاذة بيرتولدي، على سبيل المثال، كان يشمل باحثين من جامعة بنسلفانيا ومعهد جورجيا للتكنولوجيا.
ويحذر العلماء من أن هذه التخفيضات قد تكون لها آثار استراتيجية وخيمة على المدى الطويل، خاصة في ظل الاستثمارات الضخمة التي تضخها الصين في مجالات البحث والتطوير المماثلة. وأشارت بيرتولدي إلى هذا التباين قائلة: “في الصين، على حد علمي، الزملاء الذين عادوا إلى هناك يجدون دعماً هائلاً لهذا النوع من الأبحاث”.
هذا الوضع يضع الولايات المتحدة في موقف حرج، حيث قد يؤدي تقويض قدراتها البحثية الداخلية إلى فقدان تفوقها التكنولوجي والاستراتيجي في مواجهة منافسين دوليين.
المواجهة الحالية بين إدارة ترامب وجامعة هارفارد تتجاوز كونها نزاعاً على التمويل، لتصبح معركة حول القيم الأكاديمية، وحرية الفكر، والدور المستقبلي للبحث العلمي في خدمة الأمن القومي الأمريكي، في وقت يشهد فيه العالم تنافساً محموماً على الابتكار والتفوق التكنولوجي.