تقارير
أخر الأخبار

إسرائيل تروّج سلاحها بعد الحرب: محاولات لإحياء صفقات مجمّدة ومواجهة عزلة اقتصادية متصاعدة

تقارير | بقش

تتحرك شركات الصناعات الحربية الإسرائيلية في سباق محموم لاستعادة مكانتها في سوق السلاح العالمية، بعد أن تلقت ضربة قاسية خلال حرب غزة تمثلت في تجميد أو إلغاء عقود بمليارات الدولارات من دول أوروبية كانت تعد من أبرز زبائنها.

فمع توقّف العمليات العسكرية وبدء الحديث عن “مرحلة ما بعد الحرب”، تحاول تل أبيب تحويل مشهد وقف إطلاق النار إلى فرصة لإعادة فتح قنوات التصدير وإقناع العواصم الأوروبية بعودة التعامل معها، في ظل تراجع الثقة الدولية بسمعة السلاح الإسرائيلي واستخدامه في عمليات وُصفت بأنها “إبادة ممنهجة”.

تشير تقديرات المؤسسات الاقتصادية الإسرائيلية التي يتتبَّعها مرصد “بقش” إلى أن قيمة الصفقات المجمدة أو الملغاة خلال الحرب تجاوزت 1.6 مليار دولار، منها نحو مليار يورو من إسبانيا وحدها، بعد قرارات متتابعة بوقف شراء الأسلحة من شركات إسرائيلية. كما أوقفت دول أوروبية أخرى توريد قطع غيار حساسة للطائرات من دون طيار وأنظمة الاتصالات العسكرية، ما تسبب في تباطؤ خطير في خطوط الإنتاج لدى كبرى شركات الدفاع الإسرائيلية.

“صناعات الحرب” في حالة طوارئ اقتصادية

تقرّ أوساط الصناعة الإسرائيلية بأن القطاع الدفاعي يعيش حالة استنفار غير معلنة. فبعد استهلاك الجيش الإسرائيلي كميات هائلة من الذخائر والصواريخ خلال الحرب، تحاول الشركات تعويض النقص عبر تسريع وتيرة الإنتاج المحلي وتجديد المخزونات العسكرية، لكن تلك الجهود لا تكفي لتحقيق أرباح دون تصدير خارجي.

وبحسب مسؤول تنفيذي في إحدى الشركات الكبرى، فإن المصانع تعمل “بكامل طاقتها لإعادة ملء المستودعات”، لكنها تعتمد بشكل أساسي على الطلب الدولي لتحقيق العوائد.

الشركات الثلاث الكبرى، رافائيل، إلبيت سيستمز، وصناعات الفضاء الإسرائيلية (IAI)، تواجه اليوم تراجعاً في الطلب الخارجي يقابله تضخم في الطلبيات المحلية، ما يخلق خللاً في نموذجها المالي. وتشير البيانات التي طالعها بقش إلى أن حجم الطلبات المتراكمة لديها يبلغ أكثر من 250 مليار شيكل (نحو 76 مليار دولار)، جزء منها مجمّد أو مؤجل بسبب قرارات أوروبية سياسية.

تاريخياً، تعتمد إسرائيل على تصدير الأسلحة إلى أوروبا كمصدر رئيسي للدخل، إذ تصل صادراتها العسكرية السنوية إلى 15 مليار دولار في المتوسط، نصفها تقريباً إلى الاتحاد الأوروبي. لكن بعد أحداث غزة، تبدل المزاج الأوروبي بشدة، وأصبحت شركات السلاح الإسرائيلية رمزاً سياسياً مثيراً للجدل أكثر من كونها شريكاً تجارياً موثوقاً.

أوروبا تغيّر موقفها: من المشتري إلى المقاطع

منذ اندلاع الحرب الأخيرة على غزة، شهدت أوروبا تحولاً جذرياً في نظرتها إلى الصناعات الدفاعية الإسرائيلية. فصور الدمار الواسع والضحايا المدنيين دفعت الرأي العام الأوروبي إلى الضغط على حكوماته لوقف التعامل مع إسرائيل في مجال التسليح.

وبالفعل، قررت عدة دول، أبرزها إسبانيا وأيرلندا وبلجيكا، تجميد عقود توريد وإلغاء صفقات قيد التنفيذ وفق متابعات بقش، فيما وضعت دول أخرى قيوداً على منح تراخيص تصدير المكوّنات الحساسة.

ورغم محاولة تل أبيب الدفاع عن نفسها بدعوى “حقها في الأمن”، فإن المقاطعة الأوروبية حملت تداعيات اقتصادية مباشرة على شركات السلاح التي كانت تراهن على الطلب الأوروبي المتزايد منذ غزو روسيا لأوكرانيا عام 2022.

تلك الحرب الأوروبية كانت بمثابة منجم ذهب للصناعات الدفاعية الإسرائيلية، حيث ارتفعت مبيعاتها بنسبة 40% عام 2024 مقارنة بالعام السابق حسب مراجعات بقش. لكن حرب غزة قلبت الصورة: الأسواق التي ازدهرت بفضلها أصبحت اليوم مصدر تهديد لمستقبل صادراتها.

الاقتصاد الإسرائيلي بعد الحرب: “التحسن الوهمي”

في الأوساط الاقتصادية داخل إسرائيل، يسود إدراك متزايد بأن نهاية الحرب لا تعني نهاية الأزمة.

المحلل الاقتصادي الإسرائيلي يهودا شاروني وصف التفاؤل السائد في الأسواق بأنه “خدعة بصرية”، مشيراً إلى أن ارتفاع مؤشر الأسهم وتراجع سعر الدولار أمام الشيكل بعد وقف إطلاق النار لا يعكسان تعافياً حقيقياً، بل “رد فعل نفسي مؤقت”.

ويرى شاروني أن الاقتصاد الكلي الإسرائيلي يواجه تباطؤاً خطيراً نتيجة الإنفاق العسكري الضخم والعزلة السياسية المتزايدة. فبحسب تقديرات وزارة المالية، سيتجاوز العجز في الموازنة 100 مليار شيكل (حوالي 30 مليار دولار) خلال العام المقبل، مع استمرار الإنفاق الدفاعي في الارتفاع بسبب “تعزيز الجبهات السبع” التي يتحدث عنها نتنياهو.

ويؤكد محافظ بنك إسرائيل، أمير يارون، أن أسعار الفائدة لن تنخفض قريباً بسبب مخاطر التضخم، بينما يظل سوق العمل في حالة اضطراب، مع تسريح آلاف العاملين في قطاعات التكنولوجيا والتصنيع المدني نتيجة الأولويات العسكرية.

بعبارة أخرى، “الهدوء الأمني” لا يعني استقراراً اقتصادياً، بل تأجيل انفجار الأزمة إلى حين اكتمال الفاتورة.

وتتسع دائرة العزلة الإسرائيلية لتتجاوز المجال العسكري نحو التكنولوجيا الفائقة التي كانت إحدى ركائز الاقتصاد.

ففي تطور لافت، أكدت شركة مايكروسوفت أنها حظرت على وحدة الاستخبارات الإسرائيلية 8200 استخدام خدماتها السحابية بعد تقارير كشفت استخدامها خوادم “أزور” لتخزين مكالمات تم اعتراضها لفلسطينيين في غزة والضفة الغربية.

هذا القرار، الذي تبنّته لاحقاً شركات تقنية غربية أخرى، يعكس تدهور الثقة المؤسسية في الشراكات الإسرائيلية، ويمثل ضربة مزدوجة لاقتصاد يعتمد على دمج الأمن بالتكنولوجيا في مجالات التجسس والذكاء الاصطناعي العسكري.

كما أظهر استطلاع حديث لجمعية الصناعيين الإسرائيليين طالعه بقش أن 70% من المصدّرين واجهوا إلغاءات عقود بدوافع سياسية، وأن 38% يواجهون صعوبات في الشحن والتخليص الجمركي.

ومع ازدياد التحديات أمام القطاعات المدنية والتكنولوجية، تتعمق تبعية الاقتصاد الإسرائيلي لصادرات السلاح، التي تواجه بدورها عراقيل سياسية واقتصادية. إنها حلقة مفرغة تدور فيها تل أبيب منذ شهور: تعتمد على الحرب للتمويل، ثم تدفع ثمن الحرب بالعزلة.

تبدو إسرائيل اليوم أمام مفارقة قاسية: فبينما تحاول مؤسساتها الدفاعية الترويج للسلاح ذاته الذي أثار إدانات دولية واسعة، تتكشف ملامح عزلة اقتصادية طويلة الأمد تهدد قدرتها على استعادة الثقة في أسواقها.

وقف إطلاق النار لم يكن نهاية حرب، بل نقطة انطلاق لحرب جديدة أكثر هدوءاً، وأشد كلفة: حرب السمعة، والعقود، والاستثمار. واستعادة الصفقات المجمّدة قد تمنح الصناعات العسكرية جرعة مؤقتة من الأوكسجين، لكنها لن تنقذ اقتصاداً يزداد اعتماداً على السلاح وسط عالم بدأ يعيد النظر في أخلاق السوق قبل ميزانياتها.

زر الذهاب إلى الأعلى
إغلاق

أنت تستخدم إضافة Adblock

عزيزي المستخدم،

نرجو تعطيل حاجب الإعلانات لموقع بقش لدعم استمرار تقديم المحتوى المجاني وتطويره. شكرًا لتفهمك!

فريق بقش