اجتماعات واشنطن تنطلق بقلق.. والاقتصاد العالمي يصارع رسوم ترامب والديون والذكاء الاصطناعي

الاقتصاد العالمي | بقش
في الربع الأخير من عام 2025، يواجه الاقتصاد العالمي مرحلة دقيقة تجمع بين المرونة الظاهرة والهشاشة الكامنة، إذ تشير التطورات الأخيرة إلى أن موجة الرسوم الجمركية الأمريكية المتصاعدة، إلى جانب ما تُوصف بـ”فقاعة الذكاء الاصطناعي”، وارتفاع الديون العالمية الهائلة إلى مستويات غير مسبوقة، قد تضع العالم أمام تباطؤ اقتصادي جديد رغم مؤشرات الصمود المؤقتة.
وفي تقرير جديد اطلع عليه مرصد “بقش”، تقول وكالة “بلومبيرغ” إن الاقتصاد العالمي أثبت قدرة على امتصاص الصدمات خلال العام الجاري، إذ ساهم إنفاق المستهلكين الأمريكيين وطفرة الذكاء الاصطناعي في دعم الأسواق، ما أبقى النمو مستقراً نسبياً رغم أكبر موجة رسوم جمركية أمريكية منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
لكن تهديدات ترامب الأخيرة بفرض رسوم إضافية بنسبة 100% على الواردات الصينية أعادت إشعال المخاوف من اندلاع حرب تجارية أوسع، خاصةً مع إشارات واضحة إلى تباطؤ في قطاعي الصناعة والتوظيف في الولايات المتحدة، وركود متزايد في كل من الصين وألمانيا.
وليست رسوم ترامب وحدها التي تصنع الآن المخاوف الاقتصادية والتجارية عالمياً، إذ إن الاقتصاد العالمي أمام عدة اختبارات تكاد تكون مصيرية.
العالم يغرق في الديون والتجارة متباطئة
البيانات الأخيرة التي رصدها “بقش” مؤخراً من “معهد التمويل الدولي”، تؤكد أن الدين العالمي تجاوز “338 تريليون دولار” في النصف الأول من 2025، بزيادة 21 تريليون دولار خلال ستة أشهر فقط، وهذا الرقم الهائل للغاية يقارب الزيادات التي شهدها العالم أثناء جائحة كورونا، ما يُنذر بضغط إضافي على الاقتصادات الناشئة التي تعاني أصلاً من محدودية الموارد والقدرة على الاقتراض.
ويعكس رقم 338 تريليون دولار الفارق بين هذا العام والعام الماضي، حيث سجّل الدين العالمي في 2024 قرابة 318 تريليون دولار تحت ضغط تباطؤ النمو على الاقتصاد العالمي، ما يشير إلى أن هذا الضغط ازداد هذا العام على نحو دراماتيكي غير مسبوق.
وبنفس الوقت تتوقع منظمة التجارة العالمية أن يتباطأ نمو تجارة السلع العالمية إلى 0.5% فقط عام 2026، مقارنة بـ2.4% في 2025، في انعكاس مباشر لتأثير الرسوم الجمركية الأمريكية.
وهذا التباطؤ، وفقاً للمنتدى الاقتصادي في جنيف، يمثل استجابة متأخرة لتداعيات السياسات الحمائية الأمريكية التي بدأت تؤثر فعلياً على تدفقات التجارة والإنتاج الصناعي.
ويرى خبراء “سيتي غروب” الذي اطَّلع “بقش” على تقديراتهم، أنّ التأثيرات التراكمية للرسوم ستؤدي إلى تراجع الاستهلاك الأمريكي والطلب على الواردات، مما سيخفض النمو العالمي إلى أقل من 2% في النصف الثاني من 2025 قبل أن ينتعش بشكل طفيف إلى 2.5% في 2026.
ويقول ستيفن جين، وهو رئيس شركة “يوريزون إس إل جيه كابيتال” (صندوق تحوط وشركة استشارية في لندن)، إن آثار هذه الصدمة ستمتد على مدى 6 إلى 8 أرباع سنوية، حتى تظهر انعكاساتها الكاملة على الاستهلاك والنمو الأمريكي، وهو ما يعني أن تداعياتها قد تستمر حتى عام 2027.
فقاعة الذكاء الاصطناعي.. طفرة وتهديد معاً
في الوقت الذي ساهم فيه الذكاء الاصطناعي في رفع مؤشرات الأسواق الأمريكية، حذّرت مديرة صندوق النقد الدولي “كريستالينا جورجيفا” من أن تقييمات الأسهم بلغت مستويات مشابهة لتلك التي سبقت فقاعة الإنترنت عام 2000. وقالت في خطاب أخير إن أي “تصحيح حاد” قد يؤدي إلى تشديد الأوضاع المالية وتراجع النمو العالمي وكَشْف نقاط الضعف في الاقتصادات النامية.
تتفق تقديرات “أكسفورد إيكونوميكس” مع هذا التحذير، فهي تشير إلى أن تباطؤ قطاع التكنولوجيا في أمريكا قد يدفعها نحو الركود، ويخفض النمو العالمي إلى 2% في 2026. كما أشارت أليكسيس كرو، كبيرة الاقتصاديين في “برايس ووترهاوس كوبرز”، إلى أن “جنون الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لا يضمن بالضرورة نمواً مستداماً في الإنتاجية”، معتبرةً أن الحكم النهائي على دوره الحقيقي في النمو الاقتصادي ما زال مبكراً، حسب قراءة بقش تقرير “بلومبيرغ”.
الحرب التجارية تخيّم على اجتماعات واشنطن
انطلقت اليوم في واشنطن اجتماعات “صندوق النقد الدولي” و”البنك الدولي”، التي تستمر من 13 إلى 18 أكتوبر الجاري، بمشاركة أكثر من 10 آلاف شخص بينهم وزراء مالية ومحافظو بنوك مركزية من أكثر من 190 دولة حسب متابعات بقش، وسط أجواء من التوتر التجاري والقلق المالي.
سيناقش الوزراء ومحافظو البنوك المركزية ملفات معقدة، أبرزها تداعيات الحرب التجارية بين أمريكا والصين الناجمة عن تصعيد ترامب وتهديده بفرض رسوم جمركية نسبتها 100% على الواردات الصينية، وما يبثُّه ذلك من مخاوف حادة على الأسواق العالمية.
كما تناقش الاجتماعات استخدام الأصول الروسية المجمدة لتمويل أوكرانيا، والدعم الأمريكي البالغ 20 مليار دولار لإنقاذ “البيزو الأرجنتيني” قبيل الانتخابات، في وقت يتراجع فيه النشاط الصناعي الصيني والألماني ويتباطأ خلق الوظائف في الولايات المتحدة.
كل هذه الملفات تُبرز الصورة العامة لعالم يقف على مفترق طرق اقتصادي: فبينما تواصل الأسواق المالية الارتفاع بفعل الثقة في الذكاء الاصطناعي، تتراكم عوامل التباطؤ الهيكلي المتمثلة في ارتفاع الديون، تباطؤ التجارة، وتقلص هوامش الربحية.
وفي حين أن للصين بعض النفوذ على ترامب بفضل هيمنتها العالمية على “المعادن النادرة”، وهي ضرورية لتصنيع التكنولوجيا، يرى الرئيس الاستراتيجي السابق لصندوق النقد “مارتن موليسن” أنه ليس من مصلحة بكين العودة إلى بيئة من الرسوم الجمركية ذات الأرقام الثلاثية، ومن غير الواضح ما إذا كان وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت الذي قاد محادثات التجارة الأمريكية الصينية، سيلتقي بأي مسؤولين صينيين هذا الأسبوع في واشنطن.
ووفقاً لرئيسة الصندوق، جورجيفا، فإن معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي لعام 2025 سيكون أقل بقليل من معدل 3.3% لعام 2024. واستناداً إلى معدلات تعريفات جمركية أقل مما كان يُخشى في البداية -بما في ذلك الرسوم الجمركية الأميركية الصينية- رفع صندوق النقد الدولي في يوليو الماضي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي لعام 2025 بمقدار عُشر نقطة مئوية حسب مراجعة بقش إلى 3.0%.
وبينما يحاول صانعو السياسات تهدئة المخاوف في اجتماعات واشنطن، يبدو أن العالم مقبل على مرحلة تباطؤ طويلة الأمد تتطلب سياسات مالية أكثر حذراً، وتعاوناً دولياً حقيقياً لتجنب أزمة اقتصادية عالمية جديدة قد تكون هذه المرة وليدة الأسباب المتعددة، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي ذاته.