
تقارير | بقش
منعطف خطير تمر به الولايات المتحدة، بسبب بدء تسريح نحو 4,100 موظف فيدرالي ضمن حملة تخفيضات كبيرة في القوى العاملة، شملت وزارات عدة مثل الداخلية والصحة، وذلك نتيجة للإغلاق الحكومي المستمر لليوم الحادي عشر، وسط احتجاجات نقابية وتحذيرات من فوضى قانونية ناجمة عن الانقسام بين الجمهوريين والديمقراطيين حول تمويل الحكومة وبرامج الرعاية الصحية.
ووفق متابعة بقش لهذا الملف الذي يشكل قضية الرأي العام في أمريكا الآن، أرسلت إدارة ترامب إشعارات إلى ما لا يقل عن 4,100 موظف فيدرالي، ووصف متحدث باسم مكتب الميزانية في البيت الأبيض عمليات التسريح بأنها “كبيرة” من حيث العدد.
صحيفة بوليتيكو الأمريكية ذكرت أن التسريحات طالت وزارات الداخلية والخزانة والتجارة والتعليم والطاقة والصحة والخدمات الإنسانية والإسكان والتنمية الحضرية ووكالة حماية البيئة.
ويبدو أن الإغلاق الحكومي جاء من حظ ترامب ليكون حجة تبرر له تحقيق ما أراد تحقيقه في وقت سابق، فقد حاول بعد صعوده إلى الرئاسة الثانية خفض عدد الموظفين أو استخدام سياسات مثل العزل الوظيفي، بحجة أن لدى الحكومة الفيدرالية الكثير من العمالة الفائضة.
ويأتي تسريح الموظفين في سياق أوسع، فقد سبق ووصف ترامب الموظفين الفيدراليين بأنهم أعضاء في ما أسماها “الدولة العميقة”. ويشكل هذا التسريح ضربة للقوى العاملة في أمريكا، التي خسرت بالأساس 200 ألف موظف هذا العام.
سابقة تاريخية.. اتحاد الموظفين الحكوميين يشن حرباً
لم يسكت اتحاد موظفي الحكومة الأمريكية، وهو أكبر نقابة تمثل هؤلاء الموظفين (800 ألف عامل). قال الاتحاد إنه رفع دعوى قضائية ضد إدارة ترامب ولن يتوقف عن “القتال” حتى يتم إلغاء كل إشعار بالتسريح.
وطالبت النقابات القاضية سوزان إيلستون (القاضية الفيدرالية بولاية كاليفورنيا) بإصدار أمر فوري يمنع مكتب الإدارة والميزانية من توجيه الوكالات الفيدرالية إلى تنفيذ قرارات الفصل أو إرسال إشعارات التسريح قبل موعد الجلسة المقررة في 16 أكتوبر الجاري حسب متابعة بقش، والمخصصة للنظر في قانونية تلك الإجراءات.
هذه الخطوة تُعتبر سابقة في التاريخ الإداري الأمريكي، فهذه أول مرة تُقدِم فيها الحكومة الأمريكية على تسريح واسع النطاق للموظفين الفيدراليين خلال إغلاق حكومي، بعد أن كانت الإغلاقات السابقة تقتصر عادة على “إجازات قسرية” مؤقتة.
يرى المحامون الممثلون للموظفين أن عمليات الفصل خلال الإغلاق الحكومي أمر غير قانوني، وهو الرأي الذي يتفق معه بعض أعضاء الإدارة الأمريكية نفسها، وفق اطلاع بقش على موقع أكسيوس الأمريكي.
وتُعد التسريحات أثناء الإغلاق مخالفة لقوانين مثل Anti-Deficiency Act أو حقوق الموظفين، خصوصاً إذا كان المُسرَّحون موظفين كانوا ممن يُفترض أن لا يعملوا خلال الإغلاق.
وكان اقتصاديون في شركة الأبحاث “إيفركور آي إس آي”، ومقرها وول ستريت، حذّروا من أن استخدام الإغلاق الحكومي كذريعة لتسريح الموظفين سيؤدي إلى “ارتباك وعمليات تقاضي”.
وتفيد تقارير اطلع عليها بقش أن قرابة 150 ألف موظف غادروا وظائفهم مطلع السنة المالية الجديدة في 01 أكتوبر 2025، لكن بعض قرارات التسريح ما زالت قيد الطعون القضائية.
انقسام سياسي ومخاوف اقتصادية
التسريح الواسع للموظفين جاء في الوقت الذي يفقد فيه الحزب الجمهوري صبره تجاه الديمقراطيين الرافضين مشروع قانون التمويل الذي اقترحه الجمهوريون. ويتمسك الديمقراطيون بتمديد إعانات قانون الرعاية الصحية الأمريكي (أوباما كير) المقرر انتهاء صلاحيتها في ديسمبر 2025.
وحسب وكالة بلومبيرغ، يسعى ترامب لجعل الإغلاق الحكومي “أكثر إيلاماً” للولايات والمناطق ذات الأغلبية الديمقراطية، حيث جُمّدت مشاريع بقيمة 18 مليار دولار في نيويورك و8 مليارات في مشاريع الطاقة الخضراء في 16 ولاية.
يرى محللون أن ما يحدث ليس محض صراع إداري، بل اختبار سياسي صريح بين البيت الأبيض ونقابات الخدمة العامة، ويهدف إلى إعادة رسم حدود القوة بين الجهاز التنفيذي ومؤسسات العمل المدني في واشنطن، كما يثير مخاوف من انكماش اقتصادي إضافي في حال استمرار التسريحات وتأخر صرف الرواتب الفيدرالية.
تأثيرات فصل الموظفين
لا يقلّ فصلُ الموظفين عن “كارثة” بالنسبة لهم، فهذا الفصل يعني انعدام الدخل أو تراجع الدخل في أحسن الأحوال، وفقدان الاستقرار الوظيفي والتأثير على معنوياتهم وخططهم المعيشية، مثل السكن أو الالتزامات المالية الأخرى من رهون وقروض وتأمين صحي. إضافةً إلى أن الفصل يؤثر على الموظفين نفسياً وصحياً.
أما تأثير فصل الموظفين على الأجهزة الحكومية والخدمات العامة، فيتمثل في ضعف القدرة التشغيلية، فالتسريحات قد تخلّف شُغوراً في وظائف حيوية، مما يُبطئ عمليات الوكالات الفيدرالية.
وسينجم عن ذلك تأخر الخدمات للمواطنين، مثل الضرائب، التنظيم، الرقابة، الصحة العامة، وغيرها. كما أن صورة الحكومة أمام الجمهور تزيد تشوهاً، فالتسريحات الواسعة خلال الأزمات تضر بسمعة الحكومة وكفاءتها في إدارة هذه الأزمات.
أما الاقتصاد الكلي فلن يُستثنى من الآثار الوخيمة. إذ تشير تحليلات مرصد “بقش” إلى احتمالية تراجع الإنفاق الاستهلاكي، فالموظفون الذين يفقدون دخلهم أو يقل دخلهم قد يقللون الإنفاق، مما يضر بقطاعات الاقتصاد المحلي، إلى جانب أن الإغلاق الحكومي بالأساس يكلف الاقتصاد الأمريكي قرابة 15 مليار دولار أسبوعياً من الناتج المحلي الإجمالي.
وستتعطل البيانات الاقتصادية والإحصائية الهامة للغاية، وهو ما يؤثر على القرارات الاقتصادية. كما أن الفصل الشامل يؤدي إلى تآكل المؤسسات، وفقدان الخبرة والمصداقية، وصعوبة في إعادة التوظيف لاحقاً.
وهناك وظائف حكومية ترتبط بجهات في القطاع الخاص (مقاولات، عقود خارجية)، وقد يؤثر فصل الموظفين سلباً على هذه الجهات المتعاقدة.
بشكل أو بآخر، بات فصل الموظفين يُستخدم كأداة ضغط سياسي يكشف أن إدارة ترامب تنظر إلى الإغلاق ليس فقط كأزمة مؤقتة، بل كفرصة لإعادة تشكيل بعض جوانب الإدارة الفيدرالية. ويبدو أن تجاوز هذه الأزمة لا يتطلب مجرد تمرير قانون تمويل جديد، بل يستدعي اتفاقاً سياسياً يعيد الاعتبار لوظيفة الدولة، ويجنب الاقتصاد مزيداً من الصدمات التي قد تضعف مركزه العالمي.