تمثال ملكي نادر يغادر اليمن بصمت.. قطعة مرمرية ومجوهرات تاريخية تُعرض في مزادات النخبة بباريس ولندن

الاقتصاد اليمني | بقش
في ظل صمت رسمي مطبق واستمرار نزيف التراث الثقافي اليمني، كشفت متابعة جديدة للباحث اليمني المختص في شؤون الآثار، عبدالله محسن، عن عرض تمثال استثنائي ونادر للغاية من آثار اليمن القديمة، يمثل شخصية نسائية ملكية من حضارة قتبان، وذلك ضمن سلسلة من المزادات والمعارض الفنية العالمية، التي تحوّلت إلى منفذ رئيسي لبيع آثار اليمن المنهوبة.
التمثال النادر، الذي يعود تاريخه إلى القرن الثالث قبل الميلاد – أي قبل نحو 2300 عام – يُعد من أكثر القطع الأثرية اليمنية اكتمالاً وندرة، ويُجسّد شخصية نسائية بارزة من مدينة “تمنع” القتبانية، عاصمة مملكة قتبان القديمة، إحدى أبرز حضارات جنوب الجزيرة العربية.
ويتميّز بدمجه بين المرمر النقي والمجوهرات المصنوعة من البرونز، في مثال نادر عن التداخل المادي في أعمال النحت اليمني القديم.
وبحسب الوصف الفني الذي قدّمته مؤسسة “فينيكس للفن القديم” التي عُرض فيها التمثال، فإن القطعة تُظهر امرأة تقف بثبات على قاعدة صغيرة، وقدماها العاريتان تستقران على الأرض، ترتدي فستاناً طويلاً وتاجاً برونزياً، وتزيّن أذنيها أقراط معدنية كبيرة على شكل صدفة، في حين تلتف أساور على هيئة أفاعٍ حول معصميها، كما نُحت شعرها بدقة على هيئة ضفيرة طويلة تتدلّى خلف الرأس، ويُشكّل التاج البرونزي الجزء الأمامي من تصفيفة شعرها الملوكي.
ملامح الوجه منحوتة بدقة لافتة، عينان كبيرتان محددتان بمادة داكنة – ربما البيتومين – ونقوش دقيقة للحاجبين والأنف والشفتين، تعكس هيبة ملكية وسمات دينية، بينما وضع اليدين المختلف – واحدة ممدودة والأخرى مضغوطة تمسك شيئاً غير معروف – يوحي بوضع تعبّدي ديني كان شائعًا في الرموز الجنائزية اليمنية القديمة وفق اطلاع مرصد بقش.
من اليمن إلى باريس.. رحلة تمثال
المثير في قصة التمثال، كما يرصدها الباحث عبدالله محسن، أن التمثال غادر اليمن قبل عام 1970 في ظروف غامضة، ليستقر لاحقاً في فرنسا، ثم انتقل إلى سويسرا، قبل أن يُعرض في معرض “باد لندن” الشهير في ساحة بيركلي من 02 إلى 08 أكتوبر 2017.
وهذا المعرض السنوي يُعد أحد أبرز الفعاليات الفنية الأوروبية، وتأسس عام 2007 على يد تاجر التحف الباريسي “باتريك بيرين”، ويُوصف بأنه النسخة الشقيقة لمعرض “باد باريس” الذي يُقام في حديقة التويلري بين متحف اللوفر وساحة الكونكورد.
العرض الدولي لهذا التمثال يعكس كيف تحوّلت القطع اليمنية من شواهد حضارية إلى سلع فنية ثمينة تجوب العواصم الأوروبية، وتُعرض تحت إضاءات ناعمة في صالات المزادات، بعيداً عن أي سياق ثقافي أو إنساني، في ظل غياب كامل لأي تحرك رسمي لاستعادتها أو حتى تسجيل موقف قانوني بشأنها.
حلقة جديدة في سلسلة النهب المنظم
التمثال النادر لا يمثل سوى حلقة في سلسلة مستمرة من تسريب وبيع الآثار اليمنية، التي تسارعت بشكل كارثي منذ اندلاع الحرب في 2015. فقبل أسابيع فقط، عرض مزاد أمريكي ختماً ذهبياً نادراً من “الإلكتروم” – مزيج طبيعي من الذهب والفضة – يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، منقوش عليه نص مسندي كامل، ووُصف بأنه من أندر القطع اليمنية التي ظهرت في مزاد عالمي، ووفق متابعات “بقش”، فإن الختم بيع في الولايات المتحدة بعد مروره بمعرض فني خاص في نيويورك.
كما تابع “بقش” إعلان دار “أبولو للفنون” البريطانية نيتها عرض خمس قطع أثرية يمنية نادرة في يوليو 2025، تعود لحضارات سبأ ومعين وقتبان، ويُعتقد أنها نُهبت خلال فترات من الاضطراب الأمني.
ما وراء الجمال: قيمة معرفية وثقافية مهدورة
إلى جانب الجمالية المتقنة في تصميمه، يحمل تمثال المرأة ذات التاج والمجوهرات دلالات ثقافية ومعرفية بالغة الأهمية، بحسب مختصين في فنون جنوب الجزيرة العربية.
فهو يقدم معلومات بصرية دقيقة عن الملابس، والحلي، وتسريحات الشعر، والرموز الجنائزية التي استخدمها اليمنيون القدماء، ما يساعد في رسم صورة أوضح لطبيعة الحياة الاجتماعية والدينية في ممالك اليمن القديمة.
ويؤكّد باحثون أن أغلب هذه القطع كانت توضع في المقابر، وغالباً ما وُجدت عليها نقوش تدل على أنها تمثّل صوراً للمتوفين، وهو ما يعزز أهميتها في فهم الطقوس الجنائزية والمعتقدات المرتبطة بالحياة بعد الموت في تلك الحقبة.
غياب الدولة.. وتواطؤ السوق الفنية العالمية
رغم توقيع اليمن على اتفاقية 1970 الخاصة بمنع الاتجار غير المشروع بالآثار، فإن غياب الإرادة السياسية وغياب التنسيق المؤسسي مكّن السوق السوداء العالمية من الاستمرار في بيع هذه الكنوز.
ويشير رصد “بقش” إلى أن أكثر من 1000 قطعة أثرية يمنية معروضة أو معروفة في مزادات أو مجموعات خاصة في أوروبا وأمريكا، دون أي ردع قانوني فعّال.
وتتحمّل مؤسسات دولية مثل “اليونسكو” جزءاً من المسؤولية، إذ لم تصدر أي مواقف جادة أو عمليات تتبّع علنية لمثل هذه القطع، في وقت نجحت فيه دول عربية أخرى، مثل مصر والعراق، في استعادة عشرات القطع الأثرية باستخدام الأدوات القانونية الدولية.
تمثال المرمر النادر والختم الذهبي من الإلكتروم يختزلان قصة مأساوية: حضارة عظيمة تُنهب على مرأى من العالم، بلا حسيب ولا رقيب، وتُعرض كشواهد فنية دون سياق، بينما يتآكل الاقتصاد اليمني ويُسرق تاريخه تحت وطأة الفوضى والفساد.
فيما تُصنع ميداليات نوبل من معدن الإلكتروم نفسه، يُنهب الختم الذي استخدمه اليمنيون قبل ألفي عام، وبينما تتزيّن المعارض الأوروبية بتماثيل يمنية لنساء ملكيات، تبقى متاحف اليمن خاوية، ويُحرم الشعب من تاريخه وثقافته، فهل يستفيق الضمير العالمي أم تبقى هذه الكنوز مطوية في ألبومات المزادات، كأنها لا تعني أحداً؟