غموض سياسات ترامب التجارية يلقي بظلاله على اجتماعات واشنطن: قادة المال العالميون يغادرون بقلق متزايد

توافد كبار المسؤولين الماليين وقادة البنوك المركزية من مختلف أنحاء العالم على العاصمة الأمريكية واشنطن الأسبوع الماضي، حاملين معهم هاجساً رئيسياً: السعي الحثيث للحصول على رؤية واضحة بشأن الهجوم الجمركي المعقد ومتعدد المستويات الذي أطلقه الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، وفهم أعمق لحجم التداعيات المؤلمة التي قد يُلحقها بالاقتصاد العالمي الهش بالفعل.
لكن بعد أيام من الاجتماعات المكثفة والمشاورات الجانبية خلال اجتماعات الربيع لصندوق النقد والبنك الدوليين، التي تابعها بقش، غادر معظم المسؤولين الماليين العاصمة الأمريكية وهم يحملون أسئلة أكثر من الإجابات، وسط شعور متزايد بالقلق والارتباك.
السعي المضني وراء الوضوح المفقود
حسب تقرير لوكالة رويترز اطلع عليه بقش، سادت أجواء من الإحباط الخفي بين العديد من الوفود المشاركة، حيث ترسخ انطباع بأن إدارة ترامب لا تزال تقدم رسائل متضاربة، وتفتقر إلى الوضوح في مطالبها المحددة من الشركاء التجاريين الذين وجدوا أنفسهم في مرمى نيران الرسوم الجمركية الشاملة.
ففي خضم أسبوع حافل بالفعاليات، وجد العديد من وزراء المالية والتجارة صعوبة بالغة في تأمين لقاءات مباشرة مع وزير الخزانة الأمريكي “سكوت بيسنت” أو غيره من المسؤولين الرئيسيين في الإدارة الأمريكية. أما القلة التي حظيت بفرصة اللقاء، فقد قوبلت في كثير من الأحيان بنصائح تدعو إلى “التحلي بالصبر” وفق قراءة بقش، حتى مع اقتراب الموعد النهائي الحاسم الذي حدده ترامب بنفسه بتسعين يوماً قبل تفعيل الرسوم الأكثر قسوة، وهو موعد يلوح في الأفق الآن.
والأكثر إثارة للقلق، هو أنه لم يتم الإعلان عن إبرام أي صفقة تجارية ثنائية أو اتفاق محدد لتخفيف وطأة الرسوم الجمركية طوال فترة الاجتماعات، على الرغم من تصريحات الإدارة الأمريكية عن تلقيها 18 مقترحاً مكتوباً من دول مختلفة وانخراطها في قائمة كاملة من المفاوضات الجارية.
هذا الغياب للنتائج الملموسة عمّق الشعور بأن واشنطن ربما لا تزال في مرحلة صياغة استراتيجيتها النهائية أو أنها تتعمد إبقاء شركائها في حالة من عدم اليقين.
عبّر العديد من المسؤولين الأوروبيين والآسيويين وغيرهم عن قلقهم البالغ إزاء التداعيات المحتملة للرسوم الجمركية، التي تشمل حالياً 25% على جميع واردات الولايات المتحدة من المركبات والصلب والألمنيوم، و10% على معظم السلع الأخرى.
وزير مالية بولندا، أندريه دومانسكي، كان من بين الذين حاولوا إيصال هذه الرسالة بوضوح، مؤكداً خلال لقاءاته أن “هذا الغموض يضرّ بأوروبا، والولايات المتحدة تحديداً، بل يضرّ الجميع”، وأوضح دومانسكي أنه لم يأت للتفاوض، بل “لعرض ومناقشة الوضع الاقتصادي”.
مع ذلك، يبدو أن هذه التحذيرات، التي رددها العديد من الخبراء والمؤسسات الدولية حول الأضرار الجسيمة التي قد تُلحقها هذه الرسوم بالاقتصاد الأمريكي نفسه وبالنمو العالمي، لم تلق آذاناً صاغية بشكل كبير لدى صانعي القرار في واشنطن.
ونقل دومانسكي عن المسؤولين الأمريكيين اعتقادهم بأن “الأمر لن يكون بهذا السوء”، وأن ما يحدث هو مجرد “ألم قصير الأمد، لتحقيق مكسب طويل الأمد”. وأعرب الوزير البولندي عن مخاوفه قائلاً: “أخشى أن نعاني ألماً قصير الأمد، وألماً طويل الأمد”.
مفاوضات جانبية وغموض العملات
تركزت أهم المفاوضات التجارية الثنائية للإدارة الأمريكية خلال الأسبوع على اليابان وكوريا الجنوبية، وهما حليفان رئيسيان يواجهان ضغوطاً تجارية. ورغم وصف وزير الخزانة بيسنت للمحادثات بأنها كانت “مثمرة” مع كلا البلدين، إلا أن النتائج النهائية بدت غير حاسمة.
ولم يتم التطرق إلى أهداف محددة لسعر صرف الين الياباني، لكن من المتوقع أن تكون السياسات النقدية لكلا البلدين جزءاً من المحادثات المستقبلية، حيث ترى واشنطن أن ضعف عملات بعض الشركاء التجاريين مقابل الدولار يمثل حاجزاً غير جمركي أمام الصادرات الأمريكية، مما يضيف طبقة أخرى من التعقيد إلى المشهد التجاري.
في سياق متصل، تبنى صندوق النقد الدولي، في تقريره الرئيسي حول آفاق الاقتصاد العالمي، موقفاً بدا أكثر ميلاً لتوجهات الإدارة الأمريكية وأكثر تفاؤلاً بقليل من الأجواء السائدة بين الوفود.
فبينما خفض الصندوق توقعات النمو لمعظم البلدان متأثرة بالصدمات التجارية والتضخم والحروب، إلا أنه امتنع إلى حد كبير عن التنبؤ بحدوث ركود عالمي شامل، حتى بالنسبة للولايات المتحدة والصين، التي تواجه الآن رسوماً أمريكية باهظة تصل إلى 145% على العديد من سلعها.
وأقرت المديرة العامة للصندوق “كريستالينا جورجيفا”، بأن الدول الأعضاء تشعر بقلق عميق إزاء “صدمة عدم اليقين” التي تضرب الاقتصاد العالمي، لكنها أبدت أملاً في أن تؤدي المفاوضات التجارية الجارية إلى تخفيف حدة التوترات.
وقالت “جورجيفا” للصحفيين: “ندرك أن هناك جهوداً جارية لحل النزاعات التجارية والحد من حالة عدم اليقين”، مضيفة أن “عدم اليقين ضار جداً بالأعمال التجارية، لذا كلما انقشعت هذه الغمامة التي تخيم علينا، كان ذلك أفضل للأرباح والنمو والاقتصاد العالمي”.
ومع ذلك، أكد عدد من المسؤولين الماليين في أحاديث خاصة لرويترز أن احتمالات حدوث ركود أعلى بكثير من نسبة 37% التي قدرها الصندوق حسب اطلاع بقش، مستشهدين بتوقعات أكثر تشاؤماً من القطاع الخاص.
أزمة الديون: الضحية الصامتة للتوترات التجارية
في خضم التركيز المكثف على الرسوم الجمركية، حذر خبراء ومسؤولون من أن أزمة الديون المتفاقمة في العديد من الدول النامية والأسواق الناشئة قد تكون ضحية أخرى لهذا المناخ المشحون.
“إريك ليكومبت”، المدير التنفيذي لشبكة جوبيلي في الولايات المتحدة، أشار إلى أن توقعات صندوق النقد الحذرة ربما كانت تهدف جزئياً إلى تجنب إثارة الذعر في الأسواق، على الرغم من المخاوف التي عبر عنها المسؤولون في اجتماعات مغلقة بشأن تفجر أزمات ديون جديدة.
ووصف ليكومبت الأسبوع بأنه كان “بلا أي عمل يذكر” فيما يتعلق بقضايا الديون، حيث طغت محادثات التعريفات على كل شيء آخر وكانت المناقشات حول الديون غير حاسمة.
وردد “رضا باقر”، محافظ البنك المركزي الباكستاني السابق ورئيس قسم استشارات الديون السيادية حالياً في شركة ألفاريز ومارسال، هذا الشعور بالإحباط قائلاً: “في العديد من الدول النامية، وخاصة في دول الجنوب، هناك شعور حقيقي باليأس من أن أجندة تمويل التنمية لا تحظى باهتمام كبير”.
كما حذر “إندرميت جيل”، كبير الاقتصاديين في البنك الدولي، من أن ارتفاع مستويات الديون يتزامن مع تباطؤ حاد في التجارة والاستثمار الأجنبي المباشر بسبب حالة عدم اليقين والرسوم الجمركية، وهما محركان أساسيان للنمو في البلدان النامية.
وحث “جيل”، إلى جانب مسؤولين آخرين في البنك والصندوق، الدول على خفض تعريفاتها الجمركية الخاصة بها لتعزيز آفاق النمو، في مفارقة لافتة مع الاتجاه الحمائي المتصاعد في واشنطن.
رسائل متضاربة ومغادرة واشنطن بمخاوف أعمق
وسط هذه الأجواء، التقط صانعو السياسات بعض الإشارات الإيجابية عندما أعرب الوزير بيسنت عن دعم الولايات المتحدة لصندوق النقد والبنك الدوليين، مؤكداً أنهما يتمتعان “بقيمة راسخة”. لكنه انتقد في الوقت نفسه ما وصفه بـ”توسع مهامهما” لتشمل قضايا مثل تغير المناخ والمساواة بين الجنسين، مشيراً إلى رغبة الإدارة في إعادة تركيز المؤسستين على مهامهما الأساسية المتمثلة في الاستقرار الاقتصادي والتنمية.
هذا الموقف بدا وكأنه تراجع عن دعوات أكثر راديكالية للانسحاب من هذه المؤسسات وردت في وثائق مثل “مشروع 2025” المرتبط بالحزب الجمهوري.
كما أثارت تصريحات بيسنت في وقت سابق من الأسبوع بأن الرسوم الجمركية الأمريكية ثلاثية الأرقام على السلع الصينية “غير مستدامة” تفاؤلاً حذراً في الأسواق وبين المشاركين بإمكانية التوصل إلى اتفاق لتخفيفها قريباً.
لكن هذا التفاؤل لم يدم طويلاً، حيث سرعان ما نفت بكين تأكيدات الرئيس ترامب بأن مفاوضات جارية بشأن الرسوم الجمركية، مما أعاد حالة الغموض الشديد بشأن نوايا واشنطن تجاه الصين، ولم يقدم سوى القليل من الطمأنينة للوفود القلقة.
لخص “جوش ليبسكي”، المستشار السابق لصندوق النقد الدولي والمدير الأول لمركز جيو إيكونوميكس التابع للمجلس الأطلسي، الشعور العام قائلاً: “أعتقد أن معظم الناس غادروا هنا متأهبين لتفاقم الأمور اقتصادياً”. وأضاف: “الصورة العامة، عند النظر إليها من بعيد، مثيرة للقلق الشديد”.
وأشار ليبسكي إلى تحدٍ آخر يواجه الدول المتقدمة بشكل خاص، وهو عمليات البيع الأخيرة لسندات الخزانة الأمريكية وغيرها من الأصول المقومة بالدولار، والتي قد تشير إلى تراجع الثقة في السياسات الاقتصادية الأمريكية واستقرارها.
وقال إن القيادة الاقتصادية الأمريكية كانت تاريخياً هي السبب الرئيسي وراء تمتع الدولار بوضع العملة الاحتياطية العالمية. وبينما يظل الاقتصاد الأمريكي أكبر من أن يتم تجاهل الدولار في المدى القصير، حذر ليبسكي من أن الشركاء التجاريين سيبدأون في البحث بجدية عن بدائل إذا لم تتم استعادة تلك الثقة المفقودة في السياسات الأمريكية.
في نهاية المطاف، لم تنجح اجتماعات الربيع في تبديد سُحب عدم اليقين التي تخيم على الاقتصاد العالمي بفعل السياسات التجارية الأمريكية. وبدلاً من الحصول على خريطة طريق واضحة، وجد قادة المال العالميون أنفسهم يغادرون واشنطن وهم يتلمسون طريقهم في مياه اقتصادية وسياسية تزداد اضطراباً، مع بوصلة تشير إلى اتجاهات متضاربة قادمة من أكبر اقتصاد في العالم.