لأول مرة في التاريخ الذهب فوق 3,900 دولار للأونصة.. الإغلاق الحكومي الأمريكي يثير موجة شراء عالمية

الاقتصاد العالمي | بقش
سجّل الذهب قفزة غير مسبوقة في الأسواق العالمية، متجاوزاً حاجز 3,900 دولار للأونصة لأول مرة في تاريخه، وسط تصاعد حالة عدم اليقين السياسي والاقتصادي في الولايات المتحدة، واستمرار الإغلاق الحكومي، وتزايد توقعات خفض الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي.
هذا الارتفاع يعكس تحولات عميقة في سلوك المستثمرين والمؤسسات المالية، ويعيد التأكيد على موقع الذهب كأهم ملاذ مالي عالمي في أوقات الأزمات.
شهدت جلسات التداول صباح اليوم الإثنين ارتفاعاً حاداً في الأسعار، إذ صعد الذهب الفوري بنسبة 1.4% ليصل إلى 3,940.04 دولار للأونصة عند الساعة 11:08 بتوقيت غرينتش، بعدما لامس مستوى 3,949.34 دولار في وقت سابق من اليوم، وهو الأعلى على الإطلاق.
كما ارتفعت العقود الآجلة الأمريكية تسليم ديسمبر بنسبة مماثلة لتسجل 3,964.50 دولار للأونصة وفق اطلاع بقش على تحديث الأسعار، في انعكاس مباشر لقوة الزخم الشرائي في السوق.
هذا الارتفاع يأتي في سياق موجة صعود بدأت منذ مطلع العام، حيث ارتفعت الأسعار بنحو 50% مدفوعة بعوامل متعددة، منها مشتريات البنوك المركزية، وتزايد الطلب على الصناديق المتداولة المدعومة بالذهب، وضعف الدولار الأمريكي، إلى جانب تصاعد التوترات الجيوسياسية. هذه التركيبة من العوامل خلقت بيئة نادرة تجمع بين العوامل المالية والنقدية والسياسية في دعم الذهب.
التاريخ يُظهر أن اختراقات الذهب لمستويات قياسية غالباً ما ترتبط بتحولات اقتصادية عميقة، كما حدث في أزمة 2008، وفي ذروة الجائحة عام 2020. لكن الاختراق الحالي يختلف من حيث تركيبته، إذ لا يعتمد على حدث واحد، بل على سلسلة من الضغوط الممتدة والمتزامنة.
دور البنوك المركزية والمستثمرين الكبار
يشير محللون إلى أن الارتفاع الحالي ليس نتاج مضاربات قصيرة المدى، بل تحرك استراتيجي طويل الأجل من جانب البنوك المركزية والمستثمرين المؤسسيين. فقد قامت العديد من البنوك المركزية خلال العام بزيادة احتياطياتها من الذهب، في ظل رغبتها في تنويع الأصول وتقليل الاعتماد على الدولار، خاصة مع تصاعد التوترات السياسية والاقتصادية العالمية.
المحلل المستقل روس نورمان أوضح أن هذه الموجة تتسم بمشاركة ضعيفة من المضاربين، وهو ما يجعل أي تراجع محتمل في الأسعار أقل حدة مما كان عليه في فترات سابقة. هذا النوع من الزخم المؤسسي يمنح السوق صلابة نسبية ويعزز ثقة المستثمرين الكبار في استمرار الاتجاه الصاعد خلال المدى المتوسط إلى الطويل.
في المقابل، بدأت بعض الصناديق الاستثمارية الخاصة والمستثمرين الأفراد في اللحاق بالموجة متأخرين، وهو ما يفسر جزءاً من تسارع الأسعار في الأيام الأخيرة. ويرى محللون أن هذا الانجذاب المتأخر قد يزيد من تقلبات السوق على المدى القصير، لكنه لا يغير من الاتجاه الأساسي المدفوع بالسياسات النقدية والتحولات الاستراتيجية.
الإغلاق الحكومي الأمريكي وتأثيره في الأسواق
الإغلاق الجزئي للحكومة الأمريكية شكّل عامل ضغط إضافي على الأسواق المالية، حيث حذر مسؤولون في البيت الأبيض من بدء عمليات تسريح جماعي لموظفي الحكومة الفيدرالية إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع الكونغرس قريباً. هذا الإغلاق يُعد من بين الأطول في تاريخ الولايات المتحدة، ويؤثر بشكل مباشر على ثقة الأسواق والمستهلكين.
الخبير الاقتصادي لقمان أوتونوجا أشار إلى أن استمرار الإغلاق عزز شهية المستثمرين للذهب كأصل آمن، خصوصاً مع بوادر تباطؤ في سوق العمل الأمريكي وازدياد حالة الضباب الاقتصادي. فالإغلاق لا يقتصر أثره على الإنفاق الحكومي فقط، بل ينعكس على قطاعات واسعة، من الخدمات إلى العقود الفيدرالية، ما يدفع المستثمرين إلى الابتعاد عن الأصول عالية المخاطر.
ترافق هذا الوضع مع توقعات متزايدة بخفض أسعار الفائدة الفيدرالية. وتشير الأسواق حالياً إلى احتمال كبير بخفض الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس خلال الاجتماع المقبل وفق قراءة بقش، مع خفض إضافي متوقع في ديسمبر، ما يعزز جاذبية الذهب غير المدر للعائدات مقارنة بالأدوات المالية الأخرى التي تتأثر مباشرة بمستويات الفائدة.
الزخم الاستثماري والملاذ الآمن
يُنظر إلى الذهب في الظروف الراهنة باعتباره قارب النجاة المالي في بحر مضطرب. ارتفاع الأسعار لم يكن مفاجئاً للمؤسسات التي راقبت مؤشرات التضخم غير المستقرة، والسياسات المالية الأمريكية المتمددة، والتوترات التجارية المتصاعدة. هذه العوامل دفعت المستثمرين إلى زيادة تعرضهم للمعدن النفيس باعتباره أداة تحوّط رئيسية.
اللافت أن جزءاً من الارتفاع الأخير تَغذّى على ما يُعرف بظاهرة “الخوف من تفويت الفرصة” لدى المستثمرين الأفراد، وهو ما جعل أحجام التداول تقفز بشكل حاد مع اقتراب الأسعار من الحاجز النفسي 4,000 دولار للأونصة. لكن المحللين يؤكدون أن الأساسيات القوية تبقى المحرك الرئيسي، وليس المضاربات اللحظية.
هذا السلوك يعكس حالة نادرة من التلاقي بين المستثمرين الكبار والأفراد على نفس الاتجاه، وهو ما يضاعف قوة الزخم الصاعد. كما أن أي تراجع طفيف في الأسعار يُقابل بموجات شراء جديدة، ما يعزز من احتمالية استمرار الاتجاه الحالي خلال الأشهر المقبلة.
الارتفاع القوي لم يقتصر على الذهب، إذ تبعته بقية المعادن النفيسة. فقد ارتفع سعر الفضة الفوري بنسبة 1.2% ليصل إلى 48.53 دولاراً للأونصة، وهو أعلى مستوى منذ أكثر من 14 عاماً وفق اطلاع بقش. كما صعد البلاتين بنسبة 0.6% إلى 1,615.45 دولار، بينما ارتفع البلاديوم بنسبة 1.6% إلى 1,280.75 دولار للأونصة، في انعكاس لحالة التحول الشامل نحو المعادن كأصول تحوط.
هذا الارتفاع المتوازي يعكس قناعة متزايدة بأن الضباب الاقتصادي لن يكون قصير المدى، وأن الطلب على الأصول البديلة سيستمر. تاريخياً، كان ارتفاع الفضة في مراحل متقدمة من دورات الذهب إشارة على توسع المشاركة الاستثمارية وامتداد الموجة إلى قطاعات أوسع من السوق.
ويرى محللون أن استمرار هذه الديناميكية سيجعل سوق المعادن النفيسة في موقع متميز خلال الربع الأخير من العام، خصوصاً مع تزايد عدم اليقين بشأن السياسات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية في مواجهة التباطؤ العالمي.
اختراق الذهب لمستوى 3,900 دولار للأونصة لا يُعد مجرد رقم قياسي جديد، بل يعكس تحولات هيكلية في المزاج الاستثماري العالمي، حيث تجتمع العوامل السياسية والاقتصادية والنقدية في دفع المستثمرين نحو الأصول الآمنة. استمرار الإغلاق الحكومي الأمريكي، وضعف الدولار، وتغير سياسات الفائدة كلها مكونات لمشهد يذكّر بفترات التحول الكبرى في النظام المالي العالمي.
وبينما يراقب المتعاملون الأسواق عن كثب لمعرفة ما إذا كان الذهب سيخترق مستوى 4,000 دولار قريباً، تبدو المؤشرات الحالية داعمة لاستمرار المسار الصاعد. فالمعطيات الأساسية التي دفعت الأسعار إلى هذا المستوى لم تتغير، بل تزداد رسوخاً مع مرور الوقت، ما يجعل الأشهر المقبلة حاسمة في تحديد ملامح المرحلة الجديدة لسوق الذهب.