واشنطن تحصد ثمار الحرب الأوكرانية: الغاز الأمريكي يهيمن على أوروبا بعد إقصاء روسيا

تقارير | بقش
لم تكن الحرب في أوكرانيا مجرد صراع جيوسياسي على حدود أوروبا، بل فتحت الباب أمام تحولات جذرية في خريطة الطاقة العالمية، أبرز المستفيدين منها الولايات المتحدة. فبعدما نجحت واشنطن في دفع أوروبا إلى التخلي التدريجي عن الغاز الروسي الرخيص وقطع خطوط الإمداد القادمة من الشرق، بات الغاز الأمريكي المسال يتدفق إلى القارة العجوز بأحجام غير مسبوقة، محققاً مكاسب اقتصادية واستراتيجية ضخمة لواشنطن، مقابل ارتفاع التكاليف وتقلبات الأسعار داخل الاتحاد الأوروبي.
قبل الحرب، كانت أوروبا تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب منخفضة التكلفة، وهو ما جعل إمدادات الطاقة مستقرة نسبياً لعقود. لكن مع اندلاع الحرب عام 2022، ودفع الولايات المتحدة حلفاءها الأوروبيين إلى تقليص وارداتهم من موسكو، تغير المشهد جذرياً.
ففي عام 2021، كانت شحنات الغاز الطبيعي المسال تمثل 23% فقط من إجمالي إمدادات الغاز الأوروبية، مقارنة بـ10% قبل عقد من الزمان. لكن بحلول عام 2025، قفزت هذه النسبة إلى نحو 48%، مع ارتفاع عدد الناقلات المتجهة إلى الموانئ الأوروبية من 660 إلى 820 ناقلة خلال عام واحد فقط، وفقاً لبيانات اطلع عليها بقش لدى رويترز. هذا التحول يعني أن القارة الأوروبية باتت تعتمد أكثر من أي وقت مضى على الغاز المستورد بحراً، وبشكل خاص من الولايات المتحدة.
ويرى محللون أن هذا الاعتماد لم يكن نتيجة ظرف طارئ فقط، بل جزء من تحول استراتيجي ممنهج. فقد دفعت واشنطن أوروبا إلى تقليص اعتمادها على الطاقة الروسية، ليس فقط كوسيلة للضغط على موسكو، بل أيضاً لفتح أسواق ضخمة أمام صادرات الغاز الأمريكي، مستفيدة من بنيتها التحتية المتنامية في مجال تسييل الغاز.
تشير التقديرات إلى أن أوروبا ستحتاج إلى استيراد ما يصل إلى 160 شحنة إضافية من الغاز الطبيعي المسال هذا الشتاء لتعويض الانخفاض في التخزين وتراجع تدفقات خطوط الأنابيب من روسيا والجزائر. وبذلك سيرتفع إجمالي واردات الغاز الطبيعي المسال إلى الاتحاد الأوروبي هذا العام إلى مستوى قياسي يمثل ما يقرب من نصف احتياجات القارة.
كما تُظهر بيانات شركة «Energy Aspects» أن الولايات المتحدة ستوفر ما بين 58% إلى 70% من احتياجات أوروبا من الغاز الطبيعي المسال خلال الفترة 2026 – 2029، وهي قفزة هائلة مقارنة بالسنوات السابقة.
واشنطن: الرابح الاقتصادي والسياسي
يأتي هذا في الوقت الذي يخطط فيه الاتحاد الأوروبي لحظر الغاز الطبيعي المسال الروسي بالكامل اعتباراً من 2027، والغاز الروسي عبر الأنابيب بحلول 2028 حسب متابعات بقش، وهو ما يترك الساحة مفتوحة أمام واشنطن لتصبح المورد المهيمن بلا منازع.
يقول مسؤول تنفيذي في إحدى شركات المرافق الأوروبية الكبرى لرويترز، طالباً عدم الكشف عن هويته: «اعتمادنا على الولايات المتحدة سيزداد… ليس أمامنا بدائل حقيقية». فإمدادات الجزائر تتراجع، والنرويج – المزود المحلي الأكبر لأوروبا – تشهد انخفاضاً تدريجياً في الإنتاج، ما يجعل الغاز الأمريكي الخيار الأبرز والمتاح.
التحول السريع في سوق الطاقة الأوروبية لم يكن بلا عوائد ضخمة على الولايات المتحدة. فمع ارتفاع صادرات الغاز الطبيعي المسال إلى أوروبا منذ 2022، تحولت الولايات المتحدة إلى أكبر مصدر للغاز للقارة، محققة عوائد مالية ضخمة من ارتفاع الأسعار الأوروبية مقارنة بالأسعار المحلية الأمريكية المنخفضة.
كما أن الاعتماد الأوروبي المتزايد على الغاز الأمريكي يمنح واشنطن نفوذاً جيوسياسياً جديداً في القارة، في لحظة حساسة من الصراع مع روسيا. فبدلاً من خطوط الغاز القادمة من سيبيريا، أصبحت الموانئ الأوروبية تستقبل يومياً ناقلات أمريكية عملاقة تحمل الغاز المسال، في مشهد يعكس انتقال مركز الثقل الطاقوي من الشرق إلى الغرب.
أوروبا تدفع الثمن: تقلبات وأسعار غير مستقرة
وتشير البيانات التي طالعها بقش إلى أن سعة كل ناقلة غاز حديثة تبلغ نحو 0.1 مليار متر مكعب، ما يعني أن الزيادة في عدد الناقلات تمثل فعلياً مئات الملايين من الأمتار المكعبة الإضافية التي تهيمن بها الشركات الأمريكية على السوق الأوروبية.
في المقابل، لا يأتي هذا التحول دون كلفة على أوروبا، فبينما كانت عقود الغاز الروسي عبر الأنابيب تتسم بالاستقرار النسبي والأسعار المنخفضة، فإن الاعتماد على الغاز المسال – وبالأخص الأمريكي – يجعل السوق الأوروبية أكثر عرضة لتقلبات الأسعار العالمية.
الأسعار الفورية للغاز الطبيعي المسال تتأثر بعوامل خارجية مثل الطلب الآسيوي (خصوصاً الصيني)، ما يجعل التخطيط لتخزين الغاز في أوروبا أكثر صعوبة. يقول آرني لومان راسموسن، رئيس الأبحاث في شركة «Global Risk Management»، إن «توقعات الغاز في أوروبا أصبحت أكثر ارتباطاً بالمخاطر الخارجية، وهو ما يعزز التقلبات ويثني شركات الطاقة عن ملء المخزونات بالوتيرة المطلوبة».
وبحسب بيانات «Gas Infrastructure Europe»، بلغت مستويات التخزين في الاتحاد الأوروبي 82.75% فقط في 04 أكتوبر 2025، بانخفاض واضح عن 94.32% في العام الماضي وفق مراجعة بقش، وهو أدنى مستوى منذ 2021. وقد تراجعت المخزونات في مارس 2025 إلى أقل من 34%، وهو أدنى مستوى منذ عام 2022. وتشير توقعات «كبلر» إلى أن مستويات التخزين قد تنخفض إلى 29% فقط بحلول مارس 2026، وهو أدنى مستوى في سبع سنوات، ما يضيف علاوة مخاطرة إضافية إلى أسعار الغاز الأوروبية.
ما بعد روسيا.. أوروبا في قبضة السوق الأمريكية
المعادلة اليوم واضحة: أوروبا التي كانت تعتمد على مورد واحد مستقر بأسعار منخفضة، أصبحت تعتمد على سوق عالمية متقلبة تتحكم فيها ديناميكيات العرض والطلب الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة. وبينما تروج بروكسل لهذه التحولات باعتبارها تحرراً من النفوذ الروسي، فإن الواقع يشير إلى وقوعها في دائرة نفوذ طاقوي جديدة مصدرها واشنطن.
هذا الوضع يمنح الولايات المتحدة أدوات تأثير اقتصادية وسياسية لا تقل أهمية عن أنابيب الغاز الروسية السابقة. ففي أي أزمة طاقة مقبلة، سيكون للقرار الأمريكي – سواء على مستوى الأسعار أو الكميات – أثر مباشر على اقتصادات الاتحاد الأوروبي وصناعاته الثقيلة.
وفي الوقت ذاته، يثير هذا الاعتماد نقاشات داخل أوروبا حول جدوى هذه الاستراتيجية طويلة المدى، خاصة وأن البدائل المحلية، مثل الطاقات المتجددة أو إنتاج الغاز من النرويج والجزائر، تواجه قيودًا واضحة ولا يمكنها سد الفجوة الحالية.
في غضون ثلاث سنوات فقط، تحولت أوروبا من الاعتماد على الغاز الروسي الرخيص والمستقر إلى الارتهان لأسواق الغاز المسال العالمية التي تقودها الولايات المتحدة. هذه النقلة الاستراتيجية جعلت واشنطن المستفيد الأكبر من أزمة الطاقة الأوروبية، مالياً وجيوسياسياً، بينما تركت الاتحاد الأوروبي أمام تحديات أسعار متقلبة، وتخزين غير مستقر، واعتماد متزايد على مصدر خارجي واحد.
الولايات المتحدة لم تستغل فقط الفرصة الاقتصادية التي خلقتها الحرب في أوكرانيا، بل أعادت تشكيل خريطة الطاقة الأوروبية بما يعزز نفوذها لعقود قادمة. وبينما تقترب أوروبا من حظر كامل للغاز الروسي، فإن السؤال الأكبر الذي يلوح في الأفق: هل استبدلت القارة اعتماداً جيوسياسياً بآخر؟.